تبتني نظرية التعددية الدينية التي يطرحها الدكتور عبد الكريم سروش على مباني متعددة ترتبط ارتباطا وثيقا بحقانية النظرية نفسها وبالتالي فان اي خلل في هذه المباني يشكل خللا في النظرية التي هي بمثابة النتيجة المنطقية المترتبة على تلك المباني, ونحن نحاول بعون الله تعالى سرد هذه المباني وتقيمها تقيما موضوعيا لننظر هل تصلح كمبرر موضوعي للقول بالتعددية او لا؟
وينبغي ان يكون واضحا ان حديثنا في نقد هذه المباني لايعني بالضرورة نفي التعددية الدينية بقدر مايعني عدم تمامية هذا الطريق الذي تشكله هذه المباني بمجموعها واليك هذه المباني تباعا:
المبنى الأول: أن القول بالتعددية الدينية هو نتيجة طبيعية لنظرية القبض والبسط التي يتبناها سروش ويفترض انها تامة في رتبة سابقة عن بحث التعددية نفسها لذا يقول في ص12-13 من الصراطات المستقيمة:
(المبنى الاول....كان حديثنا في نظرية القبض والبسط هو ان فهمنا لمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة, وهذا التنوع والتعدد لايقبل الاختزال الى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددا فحسب بل سيالا ايضا والسر في ذلك ان النص صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواء في الفقه او الحديث او القران من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النص والاسئلة التي تدور في اذهاننا في مرحلة سابقة, وبما انه لايوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والاسئلة والفروضات المسبقة, وبما ان هذه التوقعات والفروضات المسبقة مستوحاة من خارج الدين وبما ان الفضاء المعرفي خارج الدين متغير وسيّال كما ان العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الانسانية تزداد وتتراكم وتتغير باستمرار فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الاسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة هذا هو مجمل ماورد في نظرية القبض والبسط).
ويضيف قائلا:
(وسواء كنت تعتقد بهذه الالية الخاصة او لاتعتقد فانه لايمكنك انكار ان القران الكريم واحاديث النبي تحتمل تفاسير متعددة وكما ورد في الروايات ان الكلام الالهي ذو بطون بحيث اننا اذا كشفنا الطبقة او القشرة الاولى في معنى النص لظهرت لنا طبقة اخرى من المعنى. واحد الاسباب الكامنة في هذه الظاهرة هو ان الواقع يتضمن التعدد في باطنه وبما ان الكلام يحكي عن الواقع ويكشف الستار عنه فسيكون متعددا بالتبع وهذا المعنى لايختص بالكلام الالهي فعندما نقرأ في مكتوبات عظماء الادباء والشخصيات العلمية والادبية فاننا سوف نصطدم بنفس هذه الظاهرة وسنجد ان كلامهم ذو بطون ويحتمل وجوها متعددة.... وهناك روايات عديدة تشير الى ان للقران سبعا او سبعين بطنا وهناك روايات تشير الى بعض ايات القران نزلت لأقوام متعمقيين سياتون في اخر الزمان, ان تأريخ تفسير النصوص سواء في دائرة الفكر الاسلامي او في دائرة الاديان الاخرى يشير الى التفاوت الكبير في استنتاج البشر من الكلام المقدس...).
وفي ص15 يمضي قائلا(...لايوجد دين بدون تفسير فالاسلام يعني تأريخ التفاسير والشروح التي صدرت عن الاسلام والمسيحية تعني تاريخ التفاسير التي تحدثت عن المسيحية وهكذا... ولاتعني المعرفة الدينية سوى مجموعة هذه التفاسير السقيمة والصحيحة ونحن نسبح في في بحر من التفاسير والافهام للنصّ, هذا هو مقتضى ماهية الدين من جهة ومقتضى بشريتنا وبناء اجهزتنا الادراكية من جهة اخرى, فان الاسلام السني يعتبر فهما خاصا عن الاسلام والاسلام الشيعي ايضا فهم اخر عن الاسلام.
هذه الافهام وتوابعها تعتبر كلها طبيعية ورسمية....لعل معنى ذلك ان نفس هذه اكثرة مطلوبة ولعل معنى الهداية اوسع مما نتصور ولعل النجاة والسعادة الاخروية تكمن في شيئ اخر وراء هذه الافهام واانطباعات الذهنية عن الدين والمذهب ولعل فهم الدين يعبّر عن حاة جماعية ايضا كما في الحال في الحضارة البشرية والتمدن الانساني).
في ص17(....ففي المعرفة الدينية كما هو الحال في سائر المعارف البشرية لايكون قول احد حجة تعبدية على شخص اخر ولايوجد اي فهم مقدس وخارج دائرة النقد وهذا الكلام كما انه صادق وصحيح في علم الكيمياء مثلا فكذلك هو في الفقه والتفسير ).
المبنى الثاني: يتعلق بالتجربة الدينية التي تتلخص في كونها مواجهة مع المطلق والمتعالي، ولهذه المواجهة تجليات تظهر في صور مختلفة والوان متعددة ومن هنا فهي قابلة لاكثر من تفسير، و معلوم ان الأديان كلها مسبوقة بـ(الكشف الشهودي المعنوي)
قال في ص17ومابعدها:(المبنى الثاني نصل الى النوع الثاني من البلورالية الناشئة من تنوع وتعدد تفاسير التجارب الدينية. التنوع الذي لايقبل الوحدة في ذاته فكما اننا لانمتلك دينا غير مفسر فلذلك لاتوجد تجربة غير مفسرة سواء في دائرة الطبيعية او ميدان الروح, فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم اوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود اى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا. وعلى سبيل المثال ما نجده في مسالة وحدة الوجود فقد كانت في البداية من كشوفات العرفاء ثم انعكست على شكل بيان فلسفي واثارت الكثير من السجال والشجار والنقد.
ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....).
وقال في ص24:(اذن فالطريق الاخر لوجود ظاهرة التعدد والتنوع في الفكر الديني هو وجود تفاسير متعددة للتجربة الواحدة سواء قلنا ان التجربة الدينية امر واحد له تفاسير مختلفة ومتنوعة او قلنا ان التجارب الدينية متنوعة ومتعددة في الاصل, على اي حال نحن نواجه التنوع الذي لايقبل الاختزال ابدا الى امر واحد فيجب الاعتراف بهذا التنوع وعدم التغافل عنه ولابد ان تكون نا نظرية ورؤية معيّنة لهذا التنوع في حدوث التجارب الدينية...الى ان يقول: وهكذا بالنسبة لتجربة النبي الاكرم ص عن النعيم الاخروي والبهجة المعنوية حيث ظهرت في مقام البيان بقالب((الحور العين)) فلانجد اية في القران تتحدث عن نساء شقراوات وعيون زرق ومن هنا نرى العرفاء المسلمين في تحليلهم لظاهرة التعدد في الكشوفات يقولون انه عندما تتفاوت الرؤية لدى اهل الكشف والتجربة فان حصيلة تجاربهم هذه ستكون متفاوتة ومختلفة.... وليست هذه الرؤية تقتصر على الاتباع فقط بل تشمل رؤية الانبياء فالحقيقة واحدة ولكن هولاء الانبياء الثلاثة ينظرون اليها من ثلاث زوايا او يقال بتجلي الحقيقة لهولاء الانبياء الثاثة على انحاء ومن خلال ثلاثة نوافذ ولهذا قدموا لنا ثلاثة اديان وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة....).
في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول الاستعانة بالتجارب العرفانية والصوفية مستحضرا في ذلك العديد من ابيات جلال الدين الرومي ومولوي التي تتحدث عن تموضع الحقيقة خارج النزاعات الدينية والمذهبية وان العالم مجموعة من الخطوط المستقيمة وبالتالي فان اختلاف الاديان لايعود لعوامل الضلال والانحراف بقدر مايعبر عن" غرق الحقيقة في الحقيقة" واخيرا فان منشدي الحق وطلابه لابد ان يصلوا في خاتمة المطاف الى مقصدهم حتى وان تلبسوا في ظاهر الامر بتعاليم خاطئة ماداموا يجدون في نفوسهم صدق الطلب هذا اجمال المباني الثلاثة اما تفصيلها فنجدها في اكثر من موضع وكما يلي:
قال في ص35-36(المبنى الثالث:ان جون هيك يستشهد في كلماته بأبيات شعرية من ديوان جلال الدين الرومي....تكشف هذه الابيات عن سرّ اخر وهذا السر يمثل دعامة اخرى لتأيد التعددية وتصحيح مسيرة البلورالية وهذا المفهوم عبارة عن طريقة ثالثة لفهم وهضم مقولة التعددية...ان الحرب وانزاع بين موسى وفرعون نزاع حقيقي وجدي من جهة ولكن من جهة اخرى فهو من نحو من انحاء اللعبة وبمثابة ((حرب الديكة)) ومن اجل ايهام اهل الظاهر وفي النهاية القاء الحيرة وفسح المجال لاهل السر والباطن ليمروا على اشكال النزاع الدنيوي مرور الكرام وبذلك يتمكنون من العثور على الكنز في هذه الخربة التي غفل عنها اهل الظاهر المشغولون بتكريس النزاع الديني ...هذه الرؤية تأخذ بنظر الاعتبار الجدية في النزاع بين الفرق والايان ولكنها تستنتج المعنى والغاية من خارج هذا النزاع لا من خلال انتصار طرف على اخر فنتعلم من ذلك درسا اخر من هذا التعدد والتفرق وهو ان كل تزاحم وصراع يقع في هذا العالم فالغرض منه اخفاء سرّ مهم وجوهرة ثمينة فالحافظ للسرّ لاينبغي ان ينخدع بهذه الظواهر وعليه ان يترك الناس مشغولين بالنزاع والصراع ليتحرك على مستوى استخراج الكنز واكتشاف الاسرار واستلام الجوهرة الثمينة).
قال في ص37:(المبنى الرابع...فيفترض المولوي ان السبب في تفرق المذاهب وتعدد الاديان لم ينشأ من عامل التحريف ولا المؤامرة ولادسائس المغرضين او جعل الجاعلين او كفر الكافرين... وبدلا من ان يتحدث مولانا عن تراكم الضلالة على الضلالة ذهب اى مقولة تراكم الحقيقية على الحقيقة فتراكم الحقائق هو السبب في ايجاد سبعين فرقة فالانسان عندما يرى تراكم الحقائق فسوف يعيش اجواء الحيرة في اختيار وانتخاب حقيقية معينة فالتنوع لايعني حالة طارئة على حقيقة الدين بل يمثل حاى اصيلة وغير قابلة للاجتناب, ولابد من التركيز على هذه الحقيقة واستبدال الصورة والمنظر للحقيقية فبدلا من النظر الى عالم المعنى على اساس انه عبارة عن خط واحد مستقيم ويتفرع منه مئات الخطوط المنحرفة, يجب ان ننظر الى مجموعة الخطوط انها خطوط مستقيمة قد تتقاطع فيما بينها او تتوافق فهنا ميدان تراكم الحقائق اليس هذا ماذكره اقران الكريم عن صراط الانبياء بانهم((على صراط مستقيم)) بمعنى ان كل واحد منهم يتحرك في احد هذه الطرق والخطوط المستقيمة لا ان المقصود صراط مستقيم واحد؟.
ان المشكلة في نظر المولوي ليست في ان فئات من الناس لم تدرك الحقيقة وبقيت في وادي الضلالة بل في ان الحقائق المكشوفة لهم كثيرة جدا ولذلك بقوا متحيرين بين هذه الحقائق ويعيشون عالم الجذبة واجواء الكثرة والتعدد في اختيار الحقائق).
وقال في ص39:(...وبعبارة اخرى اذا كان الواقع بسيطا واذا كان الحق واحدا او بضع حقائق في عالم الوجود لاغير ولو لم تكن للواقع طبقات وابعاد متعددة ولو ان عالم الوجود لم يكن زاخرا بالاسرار والرموز ولو ان جميع الحقائق وااسرار كانت قابلة للفهم والبيان بسهولة ولو ان سان البيان كان قادرا على افشاء الاسرار وتبين الحقائق لكان من اليسير تميو الهداية عن الضلالة او الحق عن الباطل ولامجال حيئذ لتبرير وجود الفرق والمذاهب بشكل معقول ومقبول ولكن كثرة الحقائق واختلالطها فسح المجال بالضرورة لايجاد هذه الكثرة في ظاهرة الفرق والمذاهب والسبيل اوحيد لنفي الكثرة نفي وجود الاسرار والحقائق المخفية وتبسيط الامور وتسطيح الواقع وهذا بدوره عين السذاجة والسطحية).
وقال في تحديد المبنى الخامس في ص44:(ان مثل هذه الكثرة في طريق السلوك الشاق تستوعب في اجوائها التنوع والمذاهب من جهة وكذلك لاتنافي مع ادعاء اتباع كل فرقة بان الحق من جانبهم وان النجاة من نصيبهم ظاهرا وباطنا وان الاخرين يتحركون في طريقنا رغم غفلتهم وجهلهم فنحن نفيض عليهم من هدايتنا ونسلك بهم طريق الحق وان كانوا لايعلمون وبالتلي فان الجميع من اهل النجاة ويصلون الى هدف واحد فالمسلمون يرون ان جميع السالكين طريق الحق هم من المسلمين وان كانوا لايشعرون في تفسيرهم لقوله تعاى:((ان الدين عند الله الاسلام)) ويرى المسيحيون مثل"كارل رانر" ان جميع السالكين في خط الحق واايمان هم من المسيحيين في نهاية الامر او يمكن اطلاق عنوان المسيحيين المجهولين عليهم.
ويطلق""جون هيك""...على هذا المسلك""القول بالكثرة الظاهرية"" ويجعله في مقابل البلورالية""القول بالكثرة الواقعية"" وهو مختاره في هذه المقولة).
قال في ص45:(...فهنا لو نتساءل قنا بان الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والاقوام المتدينة...الذين يبلغ عددهم مليارات الافراد واعتبرنا اتباع هذا المذهب"اي الشيعة" وهم الاقلون قد نالوا الهداية الالهية وسائر الناس سلكوا طريق الضلال والكفر"في نظر الشيعة" او قلنا بان الاقلية من اليهود وهم اثنا عشرمليون يهودي هم المهتدون والاخرون ليس لهم حظ من الهداية"بنظر اليهود" ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية الالهية متجسدة على ارض الواقع؟ ومن من الاشخاص الذين يحضون بهذه النعمة الالهية العامة وينالون لطف الله تعالى"الذي يعتمد عليه المتكلمون في اثبات النبوة" واين يتجلى اسم الهادي على مستوى الخارج؟ وكيف يمكن ان نصدق ان نبي الاسلام بمجرد ان وضع رأسه على وسادة الوفاة فان العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الالهية واهدروا بذلك جميع اتعاب النبي الاكرم ص؟ وعلى فرض ان بعض الاشخاص المعدودين كانوا يتحركون بدوافع حب الجاه والمقام ويواجهون الحق من موقع الخصومة فكيف اصبح الملايين من المسلمين"الى نهاية التأريخ" بحالة لا تقبل معها طاعاتهم ولايثابون على اتعابهم ويقبعون بانتظار سوء العاقبة؟ الا يعني هذا الاعتراف بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح النبي الاكرم ص في مهمته؟ هل ان ظهور عيسى روح الله ورسول الله وكلمة الله"بتعبير القران" من اجل ان نشرك جماعة عظيمة من الناس ويعتقدون بمقولة التثليث ويبتعدون عن جادة الهداية والصواب ويتحركون على مستوى تحريف كتاب الله وكلام نبيه؟ فهل ان عيسى بهذا الاعتبار مضل ام هاد؟ هل انه رسول الشيطان ام ان رسول الله الرحمن الرحيم؟....ان هذه الملاحظات البديهية تدفع بالانسان الى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القران ويعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية).
تقوم روح المبنى السادس على اساس الاستناد الى اسم (الهادي) لله تعالى ويتلخص مضمون هذا المبنى في ان اطلاق اسم الهداية على طائفة او مذهب بعينه مع ان تلك الطائفة وهذا المذهب لايعدوان ان يشكلا القلة القليلة للبشرية في نهاية المطاف يمنع تجسد معالم الهداية الالهية على ارض الواقع وهو امر يقود بالتالي الى عدم تجلي اسم الهادي على مستوى الخارجالامر الذي يساوق القول بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح الانبياء في مهامهم الالهية ومن هنا فعلينا توسعة دائرة الهداية والسعادة لنعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية.
نصل الان الى المبنى السابع الذي يتخلص في عدم الخلوص في امور العالم اذ لايوجد لدينا حق خالص ولاباطل خالص والا فلايعقل ان يتحرك انسان باتجاه الباطل تاركا الحق وراء ظهره والذي ينبغي ان يكون واضحا ان الحديث لايتمحور هنا حول اصل الاديان وانها عين الحق بل في فهم الناس وفي ظاهرة المذاهب الدينية المتعددةوالتي تحتوي دائما على مقدار من الحق والباطل وتجدر الاشارة الى ان هذا الخلل امتد الى الدين نفسه متمثلا بالسنة بعد شيوع ظاهرة الجعل والاختلاق في في الحديث الشريف.
البمنى السابع يعبد الطريق الى المبنى الثامن فبعد الايمان بعدم خلوص الحقائق وانحصارها في اتباع دين بعين دون اخر فان هذا يحتم على الاتباع ان يزنوا حقانية مالديهم وعرضه على حقائق الاخرين وهذا بدوره مترتب على الايمان بوجود حقائق لدى الاخرين الامر الذي يقود الى قبول التعددية الدينية.
يسجل سروش في المبنى التاسع ضرورة الايمان بالتعددية الثقافية والاخلاقية بعد التعارض القيمي والاخلاقي ومع هذا الايمان فلايبقى بون شاسع يفصلنا عن التعددية الدينية.
واخيرا يميز الدكتور سروش بين نوعين من التدين :تدين قائم على اساس الدليل واخر قائم على اساس العلة ويقصد بالثاني ذلك الايمان الموروث وليد الاطر الاجتماعية والبيئية واكثر المتدينين من النوع الثاني لذا تراهم يعيشون حالة اليقين والجزم بينما النوع الاول والقائم على اساس الدليل لايصل بصاحبه الى اليقين لذا فهو يؤسس الى بلوارية متكأة على الظن وهذا يؤدي دورا مهما في تقليل حد الجزمية والتعصب المذهبي لاننا اساسا لانعلم يقينا لمن الحق ومن يكون رأيه مصيبا لذا فاننا نحترم الجميع ولانعمل على الغاء الاخر واخراجه من حلبة السباق وهذا مايصطلح عليه ب"البلوارية الابستمولوجية".
هذه كانت روح المباني التي اعتمد عليها الدكتور سروش في تاصيل مقولة البلورالية القائمة على اساس تعدد الاديان تبعا لمعطيات ذاتية وموضوعية ترتبط بالقارء"الانسان" والمقروء"الواقع" وحان الان موعد تسليط الضوء على حقانية هذه المباني ومحلها من الصدق والموضوعية.
ان الملاحظة العامة التي يمكن ايرادها على جميع المباني التي حاول سروش تأسيسها والاستعانة بها لتثبيت المقولة سالفة الذكر" و التي اتصور ان الدكتور معنيا وبدرجة كبيرة في استجلاء كنهها وبيان غيابها" تتلخص في سكوت الاديان نفسها عن بيان النتيجة الموضوعية المترتبة على مباني الدكتور سروش ورصيدها من القبول او الرفض وانا هنا اتحدث عن التعددية بالمعنى الذي يطرحه سروش.
انه من الغريب حقا ان يكون الفهم البشري في مجمله قائما بالضد تماما مما يؤسس له الدكتور سروش ويحاول اثباته لاسيما في عصر الاديان ومع هذا لاتنطق تلك الاديان ببنت شفتة معبرة عن رفضها لطريقة تعاطي البشر مع مقولات الحقانية والهداية والضلال وغيرها!!
لقد قالوا في اصول الفقه ان استكشاف موافقة الشارع المقدس لطريقة العقلاء ورضاه بما انعقدت عليه طريقتهم لايتطلب اكثر من السكوت على ممارساتهم العقلانية التي هي على مرمى حجر منه بخلافه فيما اذا كان بالضد من هذه الطريقة فان عليه ان يبين طريقه الخاص في التعاطي مع مجمل المفاهيم الامر الذي يقود الى تنبيه العقلاء انفسهم على بطلان طريقتهم وعدم اعتماد سيرتهم لانه تعاكس طريق الدين وتخالف منهجه, وقد اضيف الى ذلك انه كلما كانت طريقة العقلاء التي يفترض انها خلاف طريقة الشارع الاقدس متجذرة في واقع الناس ووجدانهم تعيّن النهي عنها بمقدار قوة ذلك التجذر ولايكتفى بمعالجات سطحية قد لاتشكل بمجموعها رادعا يمكنه قلع جذور هذا العادات المستحكمة, ومن هنا فاننا ندعي ان تعاطي العقلاء وعلى طول الخط مع مقولات الهداية والضلال والحقانية كان قائما وبالضد مما يؤسس له الدكتور سروش ويكفي ان تراجع تاريخ البشرية لتقطع بما نقول وعلى هذا يطرح السؤال المهم عن السبب الرئيسي وراء سكوت الاديان عن جهالات الناس المفترضة ولقرون متمادية مع ان هذا السكوت قد جر اقرارا على ماهم عليه من مفاهيم ادت بالنهاية الى اشكال دموية من التصارع والتطاحن والاقتتال والتكفير؟؟؟
واذا اضفت الى ذك:سيرة المتشرعة" بماهي سلوك عام للمتدينين وعلى طول الخط فان الامر سيصبح اكثر وضوحا في التدليل على ماندعيه .
لايقال: ان ماذكرتموه من سيرة العقلاء فضلا عن سيرة المتشرعة انما له مسيس ارتباط والتصاق بالجنبة العملية لان موضوعه هو السلوك العملي بينما نظرية سروش تتصل بالمفاهيم النظرية واين هذا من ذاك؟؟
فانه يقال: ان لكلا النظريتين سواء الانحصارية الدينية او التعددية الدينية نتائج نظرية تتفرع عنها معطيات عملية سلوكية كالهداية والضلالة والايمان والكفر والولاء والنصب وغيرها كثير وهذه كلها مشمولة لكلا السيرتين فليكن نفينا للتعددية من باب نفي الملزوم بنفي لازمه على اقل تقدير.
اننا نعتقد ان الامر سيكون اكثر حراجة للدكتور سروش الذي يعتقد بحقانية الاديان من حيث اصلها ومن حيث مجموعها لا عندما نلاحظ خلو هذه الاديان نفسها من شواهد ومؤيدات لفكرة الدكتور بل عندما نجد ان هذه الاديان نفسها تؤيد مااسماه ب"الانحصارية الدينية" ومايترتب عليها من وحدة الحق والهداية وماسواها من مفاهيم الامر الذي دفع سروش الى التماس مقولات صوفية ونظريات عرفانية غير مبرهنة في اعمها كي يستعين بها على مدعياته, والغريب ان اكثر مبانية من سنخ دعوات المتصوفيين التي لم تبرهن بعد ولم يعرف حضها من الحق او الباطل.
نطالع في القران الكريم نوعين من الايات: نوع يثبت انحصارية الدين في دين واحد, ونوع اخر يضلل كل من لم يلتزم بهذا الدين ويحكم عليهم بعنوانات مختلفة من قبيل الشرك والضلال والكفر وغير ذلك , والايات المتصلة بالنوع الاول كثيرة من قبيل:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .. آل عمران 19{
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .. أل عمران 64 .
بل ان القران الكريم يحكي ذلك عن اتباع الدينيين الاخرين"اليهود والنصارى" في اكثر من اية:
وفي النوع الثاني نطالع ايات من قبيل:
ان اقصى ماتثبته نظرية القبض والبسط "القائم عليها المبنى الاول " هو ديناميكية الفهم وصيرورته بعد قابلية النص لقراءات متعددة فضلا عن طبيعة الجهاز الادراكي الانساني المتاثر بالظروف البيئية والتربوية وغيرها من ظروف تلقي بظلالها لامحالة على تعاطينا مع النصوص الدينية, ان هذا شيئا متفهما ومعقولا ولكن جعل ذلك مدعاة للتعددية الدينية امر غير واضح المستند اذ اقصى مايقال بما انكم امنتم بتعدد الواقع وانه ذو بطون متعددة وهكذا امنتم بتعدد معنى النص الديني واختلاف الجهاز الادراكي البشري فهذا يحتم عليكم فسح المجال للتعددية الدينية لانها النتيجة المنطقية للقول بالمقدمات التي ذكرناها قبل قليل, الا اننا نتحفظ على هذه النتيجة التي افرزتها نظرية القبض والبسط ويمكن ان نسجل تحفظنا في اكثر من ملاحظة:
الملاحظة الاولى: ماذكرناه قبل قليل من سكوت الاديان عن نقد هذه الظاهرة المتجذرة مع ان الضرورة داعية الى تنبيه اتباعها الى خطأ سلوكهم المتفرع على فهم الانحصارية فضلا عن وحدانية الواقع بل سجلنا قبل قليل ان الدين ليس ساكتا فحسب وانما داعم لهذه الظاهرة وبقوة.
الملاحظة الثانية : اننا وان سلمنا بتعدد الافهام وبقابلية النص الديني لاكثر من قراءة بيد ان ذلك لايعني استنطاق النص واستجلاء الواقع بمعزل عن قوانين اللغة وانظمتها ومعرفة نظام استعمال الالفاظ والدلالات وهكذا قانون التخاطب فضلا عن المنطق الخاص للغة العربية والذي هو من خصائصها وميزاتها الحصرية ومن هنا فاننا نرى انفسنا مجبرين على التعاطي مع الظهورات العرفية والدلات النصية فضلا عن مجمل قوانيين التخاطب بعد ان كان ذلك من الامور التي اقرنا عليها الدين نفسه باعتبار ان العرف قائم اساسا في مقام التفاهم على انتهاج الوسائل اللغوية المعهودة في تحديد مراداته ولو كان للدين طريق اخر لهدانا اليه ولنهانا عن طريقتنا المعهودة ومن البين ان التسليم بماذكرنا يفضي الى نفي التعددية السروشية .
الملاحظة الثالثة: ان اصل التعدد السروشي مبني على تعدد الواقع المولد بدوره للتعدد على مستوى الكلام الا ان هذا الامر لايجري على اطلاقه في جميع الظروف والملابسات اذ من البين انه وفي بعض الفروض لايمكن احتمال التعدد اصلا كما في التعدد المستلزم لتناقض الواقع فعلى هذا لو قبلنا بما ذكره سروش من تعدد فلابد ان يقبل في غير فرض التناقض المذكور بعد الحكم باستحالة ان تكون مجموعة من المذاهب كلها على حق رغم تناقضها البين.
ان ماذكره الدكتور سروش في مقدمة كتابه الصراطات المستقيمة توحي بان الرجل كان ملتفتا لهذا اللازم الباطل لذا حاول ان يجيب عنه قائلا:"لعل الحقيقة الدينية الى درجة من الغموض والابهام ان الذهن واللسان يقعان في دوامة التناقض".
وهذا الجواب غريب حقا اذا المفروض ان الانبياء هم المستوعب الاول للحقيقة الدينية على مستوى الذهن والمعبر الاصيل عنها على مستوى اللسان فما معنى وقوعهم في دوامة التناقض؟؟ واي تغرير سيصيب الناس اذا كان سفراء الله الى خلقه يستوعبون الحقيقة الدينية ويعبرون عنها بما يوحي بتناقضهم ذهنا ولسانا؟؟!!!
لقد قالوا في علم الكلام :ان الاختلاف بين اي مرحلة من مراحل الوحي يؤدي الى نقض الغرض الالهي الامر الذي يستدعي وصول الواقع كما هو ولاغرو في مال كلام الدكتور سروش الى نقض الغرض بعد ايمانه بان التعابير النبوية عن الحقيقة الالهية انما هي من عنديات الانبياء انفسهم لذا اختلفوا ايما اختلاف فيها بعد تباين درجاتهم واختلاف مستوياتهم كما يوضحه في قوله:( فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم الوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود الى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا....ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....) كما انه يقول في مكان اخر:(....وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود).
واضح ان هذا النوع من التفكير السروشي يجعل ملاك التعدد الديني راجع الى اختلاف التجربة المعنوية التي يعيشها الانبياء في حين ان المعارف الحقيقية التي تتصل بالمبدأ الحق في عمومياتها واكثر تفاصيلها لا تنحصر في هذا الطريق ولاتحدد به حتى يرجع كل الاختلاف الحاصل بين الاديان اليها وذلك للحكم القطعي باستقلال العقل في ادراكها واقامة الادلة والشواهد عليها وكل التجارب الدينية انما تأتي مؤيدة لذلك الحكم العقلي السابق بل ان العقل هو الفيصل في قبول التجربة التي تنسجم مع حكمه ورفض التي لاتنسجم معه ومن هنا يكون الدكتور سروش مطالبا بتفسير اختلاف الاديان حد التناقض في المقولة الالهية مع افتراض استنادها جميعا الى دليل العقل وكيف يمكن التعبد بفهم ديني عن الذات الالهية المقدسة وصفاتها يناقض حكم العقل الضروري؟ ومن البين ان كل مباني البلوارية التي ذكرها لاتصلح جوابا عن ذلك.
ولايفوتنا ان نذكر هنا ان سروش في مقطوعته هذه يتجاوز السبب الرئيسي لتعدد الفهم واختلافه وانا هنا اتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا بطون متعددة ويستعيظ عنه بغموض الحقيقة الدينية التي تساوق الواقع!
واخيرا لابد من القول اننا قد نتفهم اختلاف تجليات الذات الالهية لكل نبي من الانبياء ونتفهم ايضا سر الاختلاف فيما بينهم الا ان هذا الاختلاف يبنغي ان يكون مقتصرا على المعارف الحقيقية المرتبطة بالحق وصفاته وهي غاية الكشف والشهود كما انها موضوع التجلي الالهي وعلى هذا يكون التعليل السروشي محددا بالاختلاف على مستوى الحقيقة الالهية فقط ولايشمل مفردات الدين الاخرى ومن الواضح ان حقيقة الدين ليست هي الحقيقية الالهية فحسب ومن هنا لايصلح السبب الروشي جوابا عن سر اختلاف الاديان خارج اطار الحقيقية الالهية.
قد يعترض علينا معترض فيقول: ان مقولة البلوارية الدينية تحاول قراءة الدين من الخارج في حين انكم تردون عليها من داخل الدين, وبعبارة اخرى: ان سروش يؤصل مباني بلواريته انطلاقا من المساحة التي تقع خارج الدين وعليه ينبغي لكم ان تحاكموه من نفس تلك الدائرة لا ان تنطلقوا الى ذلك من نفس الدين.
وفي صدد الاجابة عن ذلك نقول:
ان الدكتور سروش لم يلغ حقانية الدين بل وسع مقولة الحقانية نفسها لتشمل الاديان جميعا فضلا عن ان اكثر مباني البلوارية الدينية متفرعة على حقانية الاديان بعد اعتمادها على نظريات عرفانية ومقولات صوفية وهكذا شواهد تفسيرية وروائية ومن هنا صح لنا ان نحاكم مقولاته وفقا لرؤى الدين ومفاهيمه والا كانت معظم مبانيه التي هي اساس مقولة التعددية مقولات جدلية الزامية لمن يؤمن بها لااكثر.
الملاحظة الرابعة: ان الدكتور سروش وفي مقام شرح اسباب وعلل القول بالتعدديه الدينية يذكر ان هذا التعدد هو مقتضى الجهاز الادراكي للانسان لذا رأيناه في مقولة الارتداد يأخذ على الفقهاء عدم الالتفات الى هذه النقطة التي قد تكون سببا في تنوع الفهم المؤدي بالتالي الى الارتداد عن الدين ولانعرف لماذا خصص كلامه هنا في اتباع الاديان والاختلاف الديني مع ان الملاك المذكور شامل حتى لغير الاتباع وللاختلاف الفكري الاعم من الاختلاف الديني ؟
الملاحظة الخامسة: ان هذه النظرية تتكأ على اصل موضوعي يتعامل معه الدكتور سروش تعامل المسلمات ونحن هنا نتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا ابعاد والوان كثيرة وهو امر يحتاج الى اقامة الادلة والشواهد عليه اذ من قال ان الواقع بهذه الكيفية التي صورها الدكتور؟؟ وهذا مانزعم ان سروش لم يات بشيئ فيه اللهم الا ماذكره عن نظرية بطون القران التي اقصى ماتفيد بحسب بعض الاصوليين :
"كون اللفظ قابلا للانطباق على معاني متعددة لانه موضوع للكلي الذي يعم جميع المعاني تلك المعاني التي هي بمثابة افراد وتطبيقات لذلك الكلي"
و من المعلوم ان الاندراج تحت الكلي يلزم منه جهة اتحاد بين الافراد المندرجة فضلا عن جهة اختلاف وبيّن ان التعددية الدينية قد تلازم القول بتباين الحقائق حد التناقض بصورة لايوجد بينها اي جهة اتحاد واشتراك ومن هنا لانرى صلاحية نظرية بطون القران الكريم كدليل على مدعياة سروش كما ان الاستدلال بتعدد التجربة واختلاف الافهام على ذلك ربما يوحي بالدور الصريح.
الغريب ان سروش يرجع ظاهرة الاختلاف الاديان الى تعدد واقع الحقيقة الدينية وتبايين شخصيات الانبياء واختلاف ادراكاتهم نافيا في الوقت ذاته وبلغة جزمية متسرعة اي دخالة للظروف الاجتماعية والمصلحية في ذلك لذا نراه يصرح في هذا الصدد قائلا:(وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة...).
لوكان الدكتور يتحدث عن واقع الاديان بغض النظر عن الملابسات البعدية التي لصقت بها لسبب واخر لهان الخطب الا اننا وبقرينة نفيه لسببية الوقائع الاجتماية وغيرها نجد انفسنا مضطرين لحمل كلامه على الاديان في طور حركتها الاجتماعية التأريخية ومعه فلامبرر لحصر سبب التفاوت الديني فيما ذكر بعد كونه ادعاء غير مدلل ومبتن اساسا على دعوى سبق ان قلنا فيها قبل قليل انها بلا شواهد وادلة فضلا عن تخالفها مع الاديان نفسها التي ترى ان البشر اعمل ثقافته ومصالحه في مفاهيم الدين وتعاليمه مما ولد انحرافا وتحريفا وهذا مانجده في اكثر من مستند ديني:
وقبل ان نغادر هذا النقطة يطالعنا سؤال ملح عن حقيقة الدين وجوهره في فلسفة سروش فاذا كان الواقع متعددا وذا ابعاد واذا كانت التجربة النبوية لاتدرك الا لونا واحدا وبعدا فاردا واذا كانت التفسيرات تتسم بالنسبية بعد اتكائها على الحقيقة ذات الالوان والابعاد فاين الدين وحقيقته في خضم هذه المعمعة؟؟؟
في ضوء هذا كله لانجد انفسنا مجانفين الصواب اذا قلنا ان الطريق اصبح معبدا للقول بنسبية الحقائق الدينية.
في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول سروش الاستعانة على مطلوبه بمقولات عرفانية وصوفية كشفية يمكن ان تشكل دعامة لمتدعياته ونحن لانريد ان نبخس حق العرفان ونسقط حجيته بالكلية وبالتالي تجريد سروش من اقوى اسلحته بقدر مانريد التحفظ على استحضار هكذا مقارباته هي اقرب للمذاق الصوفي منها للبرهان الفلسفي الكلامي في مقام ليس فيه للمذاقات والكشفيات غير المبرهنة محل ومن هنا كان اللازم على الدكتور ألا يتعاطى مع التجربة الصوفية الكشفية تعاطي المسلمات ويتعامل معها على اساس انها نقطة مفروغ عن البحث في حقانيتها وصدقها مع اننا نخال ان الدكتور يعلم ان كشف غير المعصوم ليس بحجة ولايتعد به مالم يقم عليه دليل رصين, وعلى هذا الاساس يمكن اعتبار المقولات السالفة مؤيدات لطروحة الدكتور اكثر مما هي مباني مستقلة بعد قصورها الدليلي الواضح.
في المبنى السادس يطالعنا استناد سروش الى اسم الله الهادي وبوسع المرء ان يزعم ان كلامه هنا يحوي تشابها في اكثره مع ذكره الشهيد مطهري-قد- في موضوع عمل الخير من غير المسلم في الفصل الثامن من كتابه القيم"العدل الالهي" , هناك يطرح مطهري الايمان المدلل والمعلل الذين ذكرهما سروش بعنوان الاسلام الواقعي والجغرافي ويصوغ استنتاجا عن الاقلية الناجية التي اسماها سروش بالشرذمة كا يذكر مطهري ان لازم قول المتشددين هو اسبقية غضب الله على رحمته تلك الفكرة التي يذكر سروش قريبا منها بعنوان فشل الخطة الالهية.
يذكر مطهري طرازين من التفكير يرتبطان بعمل الخير من غير المسلم قائم احدهما على الافراط والاخر على التفريط ثم يعالجهما بموضوعيته المعهودة فيخرج بطراز ثالث ومما جاء فيه: ان الكفر على نوعين: كفر على سبيل العناد والجدال ويسمى بكفر الجحود وكفر عن جهالة وعدم معرفة بالحقيقة ويؤكد ان الادلة القطعية تثبت ان الشخص العالم والمطلع على الحقيقة ومع ذلك يعاندها وينكرها فهو مستحق للعقوبة بخلاف الكفر من النوع الثاني فلابد من القول ان الجهالة وعدم المعرفة الناتجة عن غير تقصير من المكلف فهي تقع موقع عفو الله ورحمته مشيرا في الوقت ذاته الى عدم امتلاك الاسلام والكفر الجغرافيين اي قيمة للحكم بكون فلان مسلما او كافرا وهو في ذلك يقولفي ص325"فلو ان انسانا يتمتع بصفة التسليم للحقيقة ولكنه لعلل اخرى لم يهتد الى حقيقية الاسلام فهو لايكون حينئذ مقصرا والله سبحانه لايعذبه وانما هو من الناجين حيث يقول سبحانه:((وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا)) اي من المستحيل ان يعذب الله انسانا دون ان تكون الحجة عليه تامة, وعلماء الاصول يصطلحون على مفاد هذه الاية المؤيدة لحكم العقل باصطلاح((قبح العقاب بلا بيان)) ومعناه ان الله سبحانه اذا لم يبين الحقيقية كاملة لعباده فمن القبيح ان ينزل بهم عقابه, ولو بحثنا عن مثال لهذه الحقيقة فمن الممكن ان نجد افرادا يملكون ارواحا مستسلمة للحق وان لم يكن لها اسم الاسلام ...) ولايفوت الشيخ مطهري ان يستشهد بكلام استاذه العلامة الطباطبائي-قد- عندما يتحدث عن مفهوم الاستضعاف الذي هو ملاك تام لعفو الله ورحمته فقد جاء فيه فقرة ترتبط بما نحن فيه في ص370(....كذلك يتحقق_معنى الاستضعاف_ في من لم ينتقل ذهنه الى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره اليه مع كونه ممن لايعاند الحق ولايستكبر عنه اصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك).
وينبغي ان يكون واضحا ان نقطة الاختلاف المحورية بين مطهري وسروش هو ان توسيع الاخير لمقولة الهداية الالهية بحيث تشمل الاعم الاغلب من البشر وفق مبررات ذكرناها في بداية البحث الامر الذي لايظهر من مطهري الموافقة عليه وربما يكون ماذكره سروش خلطا بين الهداية والنجاة اذ ان مفهوم الهداية يستبطن وجود شيئ محدد يكون مهديا اليه ومضلولا عنه يكون هو الفيصل في معرفة الهداية من الضلالة ويسمى من عرفه مهتديا ومن لم يعرفه ضالا بقطع النظر عن المعذورية من عدمها في عدم المعرفة هذا , تلك المعذرية التي تكون ملاكا تاما للنجاة من المؤاخذة الالهية وللفوز بالنجاة الاخروية لا ان تكون ملاكا للهداية, وفي عقيدتي ان قول سروش هذا مبتن على القول بتعدد الحقيقية وتوزعها بين اطراف شتى اكثر من اعتمادها على اسم الله الهادي وان كان هو يصرح بخلاف هذا.
ان دليل اللطف الذي يحاول الدكتور سروش اقحامه في هذه النقطة لايصلح مبررا للقول بشمولية الهداية لغالبية الناس لانه وبكلا معنيه (المحصل والمقرب) لايعني الجاء الناس وقسرهم على الايمان بقدر مايعني فعل مايقرب الى الهداية ويبعد عن الضلالة وهو امر قد يجتمع مع اختيار اكثر الناس للضلال على الهدى وهذا ماسجله تأريخ الانبياء وجولات صراعهم مع طواغيت زمانهم وعلى هذا الاساس نقرأ كثيرا من الايات القرانية التي تؤكد هذه الحقيقة:
حتى اذا جاء امرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول ومن امن وما امن معه الا قليل.
أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون
بل ان المفهوم من الخطاب القراني كون عدم الايمان هو السمة البارزة لاكثر الناس وعلى طول الخط:
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}
الم اعهد لكم يابني ان لاتعبدوا الشيطان وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد اضل منكم جبلا كثيرا افلم تكونوا تعقلون.
وغير ذلك كثير.
وعلى هذا فان سروش مطالب بتبرير منطقي لاجتماع الضلال والغواية مع وجود السفراء الالهيين وحتى قبل مبررات الاختلاف التي يذكرها من تباين الافهام وبشرية الدين وتفسير التجربة وغيرها وكيف صارت الاكثرية الساحقة من البشر في عصر النبوات من اهل الانحراف؟؟ واين اسم الله الهادي الذي اعتمد عليه في مبناه السادس؟؟؟
نحن نضم صوتنا الى صوت الدكتور سروش (في المبنى السابع والثامن) الداعي الى ضرورة وزن المعارف المذهبية والدينية بميزان الحق وعرضها على مايفترض صحته وحقانيته حتى لو قلنا بمقالته من عدم الخلوص والنقاء في عالم الطبيعة والشريعة بعد الايمان بما اسماه بشرية الدين الموجب لاختلاط الدين بافرازات الذهن البشري فان هذا كله لايعدم وجود مقياس صحيح وميزان موضوعي توزن به الحقائق وتقاس به المعارف نظير كل الحقائق والمعارف الثقافية الاخرى سواء قلنا باعتماده اليقين او الظن فان المشاهد ان الحال واحد من الناحية العملية سواء في المعارف النظرية او الطبيعية وهذا امر لاينكره سروش نفسه كما في قوله في ص210 من الدين العلماني:( ان المعرفة الدينية قابلة للنقد بمقدار ماعليه المعرفة العلمية ومرجعية الدين تكون مقبولة بمقدار ماتكون مرجعية العلوم الطبيعية مقبولة والقبض والبسط في المعرفة العلمية يساوق ويوازي القبض والبسط في المعرفة الدينية...... فصحيح ان المجتمع الليبرالي قائم على هذه المباني الفكرية ولكن في دائرة العمل من خلال عملية النقد والتحليل المستمر تكاملت الرؤية الليبرالية بالنسبة الى الدين والعلم بحيث لايمكن السماح بعدها بتجاوز بعض المبادئ والاسس التي تقوم عليها الحداثة ) وكيف كان فلو لم نقل بذلك فلن نصل والحالة هذه الى مقولة حق وصدق ولصرنا مقسورين على الايمان بنسبية الحق والباطل تلك المقولة التي يرفضها سروش نفسه.
ولايفوتنا ان نسجل هنا اكثر من نقطة:
الاولى: انه وبناء على توجيه سروش لظاهرة اختلاف الاديان تبعا لاختلاف شخصيات الانبياء وتباين ادراكاتهم فان مرحلة بشرية الدين تبدأ من هذه النقطة اي قبل وصول الوحي الالهي للناس.
الثانية: ان سروش يعترف بجريان القبض والبسط حتى على المعارف الطبيعية تماما كجريانها في المعارف الدينية لكنه يعلل عدم تجاوز بعض اسس الحداثة بتعدد عملية النقد والتحليل المؤدية الى تكامل الرؤية الليبرالية بالنسبة للدين والعلم ومن هنا فلماذا لايجري هذا الامر بالضبط في المعارف الدينية اليقينيةالضرورية على نحو لايسمح بتجاوز بعض الاسس الضرورية التي تقوم عليها الاديان تبعا لعملية النقد والتحليل المؤدين الى التكامل المعرفي ؟؟
الغريب في المبنى الاخير ان سروش يجعل الايمان الدليلي المبتني على معطيات علم الكلام ذريعة للقول بالتعددية الدينية باعتبار ان نتائج علم الكلام نتائج ظنية لاترقى الى مستوى الجزم واليقين وهو هنا يأخذ على المحنى الصوفي اتجاهه الجزمي باعتبار ابتناءه على الكشف والشهود ونقطة الغرابة ان سروش نفسه يستفيد في اشادة مباني بلواريته من المعطيات العرفانية الكشفية كما رأينا وهي قائمة باعترافه على القطع واليقين الشهودي فكيف يحاول هنا ان ينسف ما بناه سابقا؟؟!!!
وينبغي ان يكون واضحا ان حديثنا في نقد هذه المباني لايعني بالضرورة نفي التعددية الدينية بقدر مايعني عدم تمامية هذا الطريق الذي تشكله هذه المباني بمجموعها واليك هذه المباني تباعا:
المبنى الأول: أن القول بالتعددية الدينية هو نتيجة طبيعية لنظرية القبض والبسط التي يتبناها سروش ويفترض انها تامة في رتبة سابقة عن بحث التعددية نفسها لذا يقول في ص12-13 من الصراطات المستقيمة:
(المبنى الاول....كان حديثنا في نظرية القبض والبسط هو ان فهمنا لمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة, وهذا التنوع والتعدد لايقبل الاختزال الى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددا فحسب بل سيالا ايضا والسر في ذلك ان النص صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواء في الفقه او الحديث او القران من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النص والاسئلة التي تدور في اذهاننا في مرحلة سابقة, وبما انه لايوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والاسئلة والفروضات المسبقة, وبما ان هذه التوقعات والفروضات المسبقة مستوحاة من خارج الدين وبما ان الفضاء المعرفي خارج الدين متغير وسيّال كما ان العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الانسانية تزداد وتتراكم وتتغير باستمرار فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الاسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة هذا هو مجمل ماورد في نظرية القبض والبسط).
ويضيف قائلا:
(وسواء كنت تعتقد بهذه الالية الخاصة او لاتعتقد فانه لايمكنك انكار ان القران الكريم واحاديث النبي تحتمل تفاسير متعددة وكما ورد في الروايات ان الكلام الالهي ذو بطون بحيث اننا اذا كشفنا الطبقة او القشرة الاولى في معنى النص لظهرت لنا طبقة اخرى من المعنى. واحد الاسباب الكامنة في هذه الظاهرة هو ان الواقع يتضمن التعدد في باطنه وبما ان الكلام يحكي عن الواقع ويكشف الستار عنه فسيكون متعددا بالتبع وهذا المعنى لايختص بالكلام الالهي فعندما نقرأ في مكتوبات عظماء الادباء والشخصيات العلمية والادبية فاننا سوف نصطدم بنفس هذه الظاهرة وسنجد ان كلامهم ذو بطون ويحتمل وجوها متعددة.... وهناك روايات عديدة تشير الى ان للقران سبعا او سبعين بطنا وهناك روايات تشير الى بعض ايات القران نزلت لأقوام متعمقيين سياتون في اخر الزمان, ان تأريخ تفسير النصوص سواء في دائرة الفكر الاسلامي او في دائرة الاديان الاخرى يشير الى التفاوت الكبير في استنتاج البشر من الكلام المقدس...).
وفي ص15 يمضي قائلا(...لايوجد دين بدون تفسير فالاسلام يعني تأريخ التفاسير والشروح التي صدرت عن الاسلام والمسيحية تعني تاريخ التفاسير التي تحدثت عن المسيحية وهكذا... ولاتعني المعرفة الدينية سوى مجموعة هذه التفاسير السقيمة والصحيحة ونحن نسبح في في بحر من التفاسير والافهام للنصّ, هذا هو مقتضى ماهية الدين من جهة ومقتضى بشريتنا وبناء اجهزتنا الادراكية من جهة اخرى, فان الاسلام السني يعتبر فهما خاصا عن الاسلام والاسلام الشيعي ايضا فهم اخر عن الاسلام.
هذه الافهام وتوابعها تعتبر كلها طبيعية ورسمية....لعل معنى ذلك ان نفس هذه اكثرة مطلوبة ولعل معنى الهداية اوسع مما نتصور ولعل النجاة والسعادة الاخروية تكمن في شيئ اخر وراء هذه الافهام واانطباعات الذهنية عن الدين والمذهب ولعل فهم الدين يعبّر عن حاة جماعية ايضا كما في الحال في الحضارة البشرية والتمدن الانساني).
في ص17(....ففي المعرفة الدينية كما هو الحال في سائر المعارف البشرية لايكون قول احد حجة تعبدية على شخص اخر ولايوجد اي فهم مقدس وخارج دائرة النقد وهذا الكلام كما انه صادق وصحيح في علم الكيمياء مثلا فكذلك هو في الفقه والتفسير ).
المبنى الثاني: يتعلق بالتجربة الدينية التي تتلخص في كونها مواجهة مع المطلق والمتعالي، ولهذه المواجهة تجليات تظهر في صور مختلفة والوان متعددة ومن هنا فهي قابلة لاكثر من تفسير، و معلوم ان الأديان كلها مسبوقة بـ(الكشف الشهودي المعنوي)
قال في ص17ومابعدها:(المبنى الثاني نصل الى النوع الثاني من البلورالية الناشئة من تنوع وتعدد تفاسير التجارب الدينية. التنوع الذي لايقبل الوحدة في ذاته فكما اننا لانمتلك دينا غير مفسر فلذلك لاتوجد تجربة غير مفسرة سواء في دائرة الطبيعية او ميدان الروح, فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم اوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود اى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا. وعلى سبيل المثال ما نجده في مسالة وحدة الوجود فقد كانت في البداية من كشوفات العرفاء ثم انعكست على شكل بيان فلسفي واثارت الكثير من السجال والشجار والنقد.
ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....).
وقال في ص24:(اذن فالطريق الاخر لوجود ظاهرة التعدد والتنوع في الفكر الديني هو وجود تفاسير متعددة للتجربة الواحدة سواء قلنا ان التجربة الدينية امر واحد له تفاسير مختلفة ومتنوعة او قلنا ان التجارب الدينية متنوعة ومتعددة في الاصل, على اي حال نحن نواجه التنوع الذي لايقبل الاختزال ابدا الى امر واحد فيجب الاعتراف بهذا التنوع وعدم التغافل عنه ولابد ان تكون نا نظرية ورؤية معيّنة لهذا التنوع في حدوث التجارب الدينية...الى ان يقول: وهكذا بالنسبة لتجربة النبي الاكرم ص عن النعيم الاخروي والبهجة المعنوية حيث ظهرت في مقام البيان بقالب((الحور العين)) فلانجد اية في القران تتحدث عن نساء شقراوات وعيون زرق ومن هنا نرى العرفاء المسلمين في تحليلهم لظاهرة التعدد في الكشوفات يقولون انه عندما تتفاوت الرؤية لدى اهل الكشف والتجربة فان حصيلة تجاربهم هذه ستكون متفاوتة ومختلفة.... وليست هذه الرؤية تقتصر على الاتباع فقط بل تشمل رؤية الانبياء فالحقيقة واحدة ولكن هولاء الانبياء الثلاثة ينظرون اليها من ثلاث زوايا او يقال بتجلي الحقيقة لهولاء الانبياء الثاثة على انحاء ومن خلال ثلاثة نوافذ ولهذا قدموا لنا ثلاثة اديان وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة....).
في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول الاستعانة بالتجارب العرفانية والصوفية مستحضرا في ذلك العديد من ابيات جلال الدين الرومي ومولوي التي تتحدث عن تموضع الحقيقة خارج النزاعات الدينية والمذهبية وان العالم مجموعة من الخطوط المستقيمة وبالتالي فان اختلاف الاديان لايعود لعوامل الضلال والانحراف بقدر مايعبر عن" غرق الحقيقة في الحقيقة" واخيرا فان منشدي الحق وطلابه لابد ان يصلوا في خاتمة المطاف الى مقصدهم حتى وان تلبسوا في ظاهر الامر بتعاليم خاطئة ماداموا يجدون في نفوسهم صدق الطلب هذا اجمال المباني الثلاثة اما تفصيلها فنجدها في اكثر من موضع وكما يلي:
قال في ص35-36(المبنى الثالث:ان جون هيك يستشهد في كلماته بأبيات شعرية من ديوان جلال الدين الرومي....تكشف هذه الابيات عن سرّ اخر وهذا السر يمثل دعامة اخرى لتأيد التعددية وتصحيح مسيرة البلورالية وهذا المفهوم عبارة عن طريقة ثالثة لفهم وهضم مقولة التعددية...ان الحرب وانزاع بين موسى وفرعون نزاع حقيقي وجدي من جهة ولكن من جهة اخرى فهو من نحو من انحاء اللعبة وبمثابة ((حرب الديكة)) ومن اجل ايهام اهل الظاهر وفي النهاية القاء الحيرة وفسح المجال لاهل السر والباطن ليمروا على اشكال النزاع الدنيوي مرور الكرام وبذلك يتمكنون من العثور على الكنز في هذه الخربة التي غفل عنها اهل الظاهر المشغولون بتكريس النزاع الديني ...هذه الرؤية تأخذ بنظر الاعتبار الجدية في النزاع بين الفرق والايان ولكنها تستنتج المعنى والغاية من خارج هذا النزاع لا من خلال انتصار طرف على اخر فنتعلم من ذلك درسا اخر من هذا التعدد والتفرق وهو ان كل تزاحم وصراع يقع في هذا العالم فالغرض منه اخفاء سرّ مهم وجوهرة ثمينة فالحافظ للسرّ لاينبغي ان ينخدع بهذه الظواهر وعليه ان يترك الناس مشغولين بالنزاع والصراع ليتحرك على مستوى استخراج الكنز واكتشاف الاسرار واستلام الجوهرة الثمينة).
قال في ص37:(المبنى الرابع...فيفترض المولوي ان السبب في تفرق المذاهب وتعدد الاديان لم ينشأ من عامل التحريف ولا المؤامرة ولادسائس المغرضين او جعل الجاعلين او كفر الكافرين... وبدلا من ان يتحدث مولانا عن تراكم الضلالة على الضلالة ذهب اى مقولة تراكم الحقيقية على الحقيقة فتراكم الحقائق هو السبب في ايجاد سبعين فرقة فالانسان عندما يرى تراكم الحقائق فسوف يعيش اجواء الحيرة في اختيار وانتخاب حقيقية معينة فالتنوع لايعني حالة طارئة على حقيقة الدين بل يمثل حاى اصيلة وغير قابلة للاجتناب, ولابد من التركيز على هذه الحقيقة واستبدال الصورة والمنظر للحقيقية فبدلا من النظر الى عالم المعنى على اساس انه عبارة عن خط واحد مستقيم ويتفرع منه مئات الخطوط المنحرفة, يجب ان ننظر الى مجموعة الخطوط انها خطوط مستقيمة قد تتقاطع فيما بينها او تتوافق فهنا ميدان تراكم الحقائق اليس هذا ماذكره اقران الكريم عن صراط الانبياء بانهم((على صراط مستقيم)) بمعنى ان كل واحد منهم يتحرك في احد هذه الطرق والخطوط المستقيمة لا ان المقصود صراط مستقيم واحد؟.
ان المشكلة في نظر المولوي ليست في ان فئات من الناس لم تدرك الحقيقة وبقيت في وادي الضلالة بل في ان الحقائق المكشوفة لهم كثيرة جدا ولذلك بقوا متحيرين بين هذه الحقائق ويعيشون عالم الجذبة واجواء الكثرة والتعدد في اختيار الحقائق).
وقال في ص39:(...وبعبارة اخرى اذا كان الواقع بسيطا واذا كان الحق واحدا او بضع حقائق في عالم الوجود لاغير ولو لم تكن للواقع طبقات وابعاد متعددة ولو ان عالم الوجود لم يكن زاخرا بالاسرار والرموز ولو ان جميع الحقائق وااسرار كانت قابلة للفهم والبيان بسهولة ولو ان سان البيان كان قادرا على افشاء الاسرار وتبين الحقائق لكان من اليسير تميو الهداية عن الضلالة او الحق عن الباطل ولامجال حيئذ لتبرير وجود الفرق والمذاهب بشكل معقول ومقبول ولكن كثرة الحقائق واختلالطها فسح المجال بالضرورة لايجاد هذه الكثرة في ظاهرة الفرق والمذاهب والسبيل اوحيد لنفي الكثرة نفي وجود الاسرار والحقائق المخفية وتبسيط الامور وتسطيح الواقع وهذا بدوره عين السذاجة والسطحية).
وقال في تحديد المبنى الخامس في ص44:(ان مثل هذه الكثرة في طريق السلوك الشاق تستوعب في اجوائها التنوع والمذاهب من جهة وكذلك لاتنافي مع ادعاء اتباع كل فرقة بان الحق من جانبهم وان النجاة من نصيبهم ظاهرا وباطنا وان الاخرين يتحركون في طريقنا رغم غفلتهم وجهلهم فنحن نفيض عليهم من هدايتنا ونسلك بهم طريق الحق وان كانوا لايعلمون وبالتلي فان الجميع من اهل النجاة ويصلون الى هدف واحد فالمسلمون يرون ان جميع السالكين طريق الحق هم من المسلمين وان كانوا لايشعرون في تفسيرهم لقوله تعاى:((ان الدين عند الله الاسلام)) ويرى المسيحيون مثل"كارل رانر" ان جميع السالكين في خط الحق واايمان هم من المسيحيين في نهاية الامر او يمكن اطلاق عنوان المسيحيين المجهولين عليهم.
ويطلق""جون هيك""...على هذا المسلك""القول بالكثرة الظاهرية"" ويجعله في مقابل البلورالية""القول بالكثرة الواقعية"" وهو مختاره في هذه المقولة).
قال في ص45:(...فهنا لو نتساءل قنا بان الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والاقوام المتدينة...الذين يبلغ عددهم مليارات الافراد واعتبرنا اتباع هذا المذهب"اي الشيعة" وهم الاقلون قد نالوا الهداية الالهية وسائر الناس سلكوا طريق الضلال والكفر"في نظر الشيعة" او قلنا بان الاقلية من اليهود وهم اثنا عشرمليون يهودي هم المهتدون والاخرون ليس لهم حظ من الهداية"بنظر اليهود" ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية الالهية متجسدة على ارض الواقع؟ ومن من الاشخاص الذين يحضون بهذه النعمة الالهية العامة وينالون لطف الله تعالى"الذي يعتمد عليه المتكلمون في اثبات النبوة" واين يتجلى اسم الهادي على مستوى الخارج؟ وكيف يمكن ان نصدق ان نبي الاسلام بمجرد ان وضع رأسه على وسادة الوفاة فان العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الالهية واهدروا بذلك جميع اتعاب النبي الاكرم ص؟ وعلى فرض ان بعض الاشخاص المعدودين كانوا يتحركون بدوافع حب الجاه والمقام ويواجهون الحق من موقع الخصومة فكيف اصبح الملايين من المسلمين"الى نهاية التأريخ" بحالة لا تقبل معها طاعاتهم ولايثابون على اتعابهم ويقبعون بانتظار سوء العاقبة؟ الا يعني هذا الاعتراف بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح النبي الاكرم ص في مهمته؟ هل ان ظهور عيسى روح الله ورسول الله وكلمة الله"بتعبير القران" من اجل ان نشرك جماعة عظيمة من الناس ويعتقدون بمقولة التثليث ويبتعدون عن جادة الهداية والصواب ويتحركون على مستوى تحريف كتاب الله وكلام نبيه؟ فهل ان عيسى بهذا الاعتبار مضل ام هاد؟ هل انه رسول الشيطان ام ان رسول الله الرحمن الرحيم؟....ان هذه الملاحظات البديهية تدفع بالانسان الى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القران ويعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية).
تقوم روح المبنى السادس على اساس الاستناد الى اسم (الهادي) لله تعالى ويتلخص مضمون هذا المبنى في ان اطلاق اسم الهداية على طائفة او مذهب بعينه مع ان تلك الطائفة وهذا المذهب لايعدوان ان يشكلا القلة القليلة للبشرية في نهاية المطاف يمنع تجسد معالم الهداية الالهية على ارض الواقع وهو امر يقود بالتالي الى عدم تجلي اسم الهادي على مستوى الخارجالامر الذي يساوق القول بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح الانبياء في مهامهم الالهية ومن هنا فعلينا توسعة دائرة الهداية والسعادة لنعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية.
نصل الان الى المبنى السابع الذي يتخلص في عدم الخلوص في امور العالم اذ لايوجد لدينا حق خالص ولاباطل خالص والا فلايعقل ان يتحرك انسان باتجاه الباطل تاركا الحق وراء ظهره والذي ينبغي ان يكون واضحا ان الحديث لايتمحور هنا حول اصل الاديان وانها عين الحق بل في فهم الناس وفي ظاهرة المذاهب الدينية المتعددةوالتي تحتوي دائما على مقدار من الحق والباطل وتجدر الاشارة الى ان هذا الخلل امتد الى الدين نفسه متمثلا بالسنة بعد شيوع ظاهرة الجعل والاختلاق في في الحديث الشريف.
البمنى السابع يعبد الطريق الى المبنى الثامن فبعد الايمان بعدم خلوص الحقائق وانحصارها في اتباع دين بعين دون اخر فان هذا يحتم على الاتباع ان يزنوا حقانية مالديهم وعرضه على حقائق الاخرين وهذا بدوره مترتب على الايمان بوجود حقائق لدى الاخرين الامر الذي يقود الى قبول التعددية الدينية.
يسجل سروش في المبنى التاسع ضرورة الايمان بالتعددية الثقافية والاخلاقية بعد التعارض القيمي والاخلاقي ومع هذا الايمان فلايبقى بون شاسع يفصلنا عن التعددية الدينية.
واخيرا يميز الدكتور سروش بين نوعين من التدين :تدين قائم على اساس الدليل واخر قائم على اساس العلة ويقصد بالثاني ذلك الايمان الموروث وليد الاطر الاجتماعية والبيئية واكثر المتدينين من النوع الثاني لذا تراهم يعيشون حالة اليقين والجزم بينما النوع الاول والقائم على اساس الدليل لايصل بصاحبه الى اليقين لذا فهو يؤسس الى بلوارية متكأة على الظن وهذا يؤدي دورا مهما في تقليل حد الجزمية والتعصب المذهبي لاننا اساسا لانعلم يقينا لمن الحق ومن يكون رأيه مصيبا لذا فاننا نحترم الجميع ولانعمل على الغاء الاخر واخراجه من حلبة السباق وهذا مايصطلح عليه ب"البلوارية الابستمولوجية".
هذه كانت روح المباني التي اعتمد عليها الدكتور سروش في تاصيل مقولة البلورالية القائمة على اساس تعدد الاديان تبعا لمعطيات ذاتية وموضوعية ترتبط بالقارء"الانسان" والمقروء"الواقع" وحان الان موعد تسليط الضوء على حقانية هذه المباني ومحلها من الصدق والموضوعية.
ان الملاحظة العامة التي يمكن ايرادها على جميع المباني التي حاول سروش تأسيسها والاستعانة بها لتثبيت المقولة سالفة الذكر" و التي اتصور ان الدكتور معنيا وبدرجة كبيرة في استجلاء كنهها وبيان غيابها" تتلخص في سكوت الاديان نفسها عن بيان النتيجة الموضوعية المترتبة على مباني الدكتور سروش ورصيدها من القبول او الرفض وانا هنا اتحدث عن التعددية بالمعنى الذي يطرحه سروش.
انه من الغريب حقا ان يكون الفهم البشري في مجمله قائما بالضد تماما مما يؤسس له الدكتور سروش ويحاول اثباته لاسيما في عصر الاديان ومع هذا لاتنطق تلك الاديان ببنت شفتة معبرة عن رفضها لطريقة تعاطي البشر مع مقولات الحقانية والهداية والضلال وغيرها!!
لقد قالوا في اصول الفقه ان استكشاف موافقة الشارع المقدس لطريقة العقلاء ورضاه بما انعقدت عليه طريقتهم لايتطلب اكثر من السكوت على ممارساتهم العقلانية التي هي على مرمى حجر منه بخلافه فيما اذا كان بالضد من هذه الطريقة فان عليه ان يبين طريقه الخاص في التعاطي مع مجمل المفاهيم الامر الذي يقود الى تنبيه العقلاء انفسهم على بطلان طريقتهم وعدم اعتماد سيرتهم لانه تعاكس طريق الدين وتخالف منهجه, وقد اضيف الى ذلك انه كلما كانت طريقة العقلاء التي يفترض انها خلاف طريقة الشارع الاقدس متجذرة في واقع الناس ووجدانهم تعيّن النهي عنها بمقدار قوة ذلك التجذر ولايكتفى بمعالجات سطحية قد لاتشكل بمجموعها رادعا يمكنه قلع جذور هذا العادات المستحكمة, ومن هنا فاننا ندعي ان تعاطي العقلاء وعلى طول الخط مع مقولات الهداية والضلال والحقانية كان قائما وبالضد مما يؤسس له الدكتور سروش ويكفي ان تراجع تاريخ البشرية لتقطع بما نقول وعلى هذا يطرح السؤال المهم عن السبب الرئيسي وراء سكوت الاديان عن جهالات الناس المفترضة ولقرون متمادية مع ان هذا السكوت قد جر اقرارا على ماهم عليه من مفاهيم ادت بالنهاية الى اشكال دموية من التصارع والتطاحن والاقتتال والتكفير؟؟؟
واذا اضفت الى ذك:سيرة المتشرعة" بماهي سلوك عام للمتدينين وعلى طول الخط فان الامر سيصبح اكثر وضوحا في التدليل على ماندعيه .
لايقال: ان ماذكرتموه من سيرة العقلاء فضلا عن سيرة المتشرعة انما له مسيس ارتباط والتصاق بالجنبة العملية لان موضوعه هو السلوك العملي بينما نظرية سروش تتصل بالمفاهيم النظرية واين هذا من ذاك؟؟
فانه يقال: ان لكلا النظريتين سواء الانحصارية الدينية او التعددية الدينية نتائج نظرية تتفرع عنها معطيات عملية سلوكية كالهداية والضلالة والايمان والكفر والولاء والنصب وغيرها كثير وهذه كلها مشمولة لكلا السيرتين فليكن نفينا للتعددية من باب نفي الملزوم بنفي لازمه على اقل تقدير.
اننا نعتقد ان الامر سيكون اكثر حراجة للدكتور سروش الذي يعتقد بحقانية الاديان من حيث اصلها ومن حيث مجموعها لا عندما نلاحظ خلو هذه الاديان نفسها من شواهد ومؤيدات لفكرة الدكتور بل عندما نجد ان هذه الاديان نفسها تؤيد مااسماه ب"الانحصارية الدينية" ومايترتب عليها من وحدة الحق والهداية وماسواها من مفاهيم الامر الذي دفع سروش الى التماس مقولات صوفية ونظريات عرفانية غير مبرهنة في اعمها كي يستعين بها على مدعياته, والغريب ان اكثر مبانية من سنخ دعوات المتصوفيين التي لم تبرهن بعد ولم يعرف حضها من الحق او الباطل.
نطالع في القران الكريم نوعين من الايات: نوع يثبت انحصارية الدين في دين واحد, ونوع اخر يضلل كل من لم يلتزم بهذا الدين ويحكم عليهم بعنوانات مختلفة من قبيل الشرك والضلال والكفر وغير ذلك , والايات المتصلة بالنوع الاول كثيرة من قبيل:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .. آل عمران 19{
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .. أل عمران 64 .
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .. الأنعام 161
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (الانعام 153)
( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)
وغير ذلك.
بل ان القران الكريم يحكي ذلك عن اتباع الدينيين الاخرين"اليهود والنصارى" في اكثر من اية:
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ..
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون
"وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم عن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وفي النوع الثاني نطالع ايات من قبيل:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ }
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ }
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
- (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم)
- (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم)
ان اقصى ماتثبته نظرية القبض والبسط "القائم عليها المبنى الاول " هو ديناميكية الفهم وصيرورته بعد قابلية النص لقراءات متعددة فضلا عن طبيعة الجهاز الادراكي الانساني المتاثر بالظروف البيئية والتربوية وغيرها من ظروف تلقي بظلالها لامحالة على تعاطينا مع النصوص الدينية, ان هذا شيئا متفهما ومعقولا ولكن جعل ذلك مدعاة للتعددية الدينية امر غير واضح المستند اذ اقصى مايقال بما انكم امنتم بتعدد الواقع وانه ذو بطون متعددة وهكذا امنتم بتعدد معنى النص الديني واختلاف الجهاز الادراكي البشري فهذا يحتم عليكم فسح المجال للتعددية الدينية لانها النتيجة المنطقية للقول بالمقدمات التي ذكرناها قبل قليل, الا اننا نتحفظ على هذه النتيجة التي افرزتها نظرية القبض والبسط ويمكن ان نسجل تحفظنا في اكثر من ملاحظة:
الملاحظة الاولى: ماذكرناه قبل قليل من سكوت الاديان عن نقد هذه الظاهرة المتجذرة مع ان الضرورة داعية الى تنبيه اتباعها الى خطأ سلوكهم المتفرع على فهم الانحصارية فضلا عن وحدانية الواقع بل سجلنا قبل قليل ان الدين ليس ساكتا فحسب وانما داعم لهذه الظاهرة وبقوة.
الملاحظة الثانية : اننا وان سلمنا بتعدد الافهام وبقابلية النص الديني لاكثر من قراءة بيد ان ذلك لايعني استنطاق النص واستجلاء الواقع بمعزل عن قوانين اللغة وانظمتها ومعرفة نظام استعمال الالفاظ والدلالات وهكذا قانون التخاطب فضلا عن المنطق الخاص للغة العربية والذي هو من خصائصها وميزاتها الحصرية ومن هنا فاننا نرى انفسنا مجبرين على التعاطي مع الظهورات العرفية والدلات النصية فضلا عن مجمل قوانيين التخاطب بعد ان كان ذلك من الامور التي اقرنا عليها الدين نفسه باعتبار ان العرف قائم اساسا في مقام التفاهم على انتهاج الوسائل اللغوية المعهودة في تحديد مراداته ولو كان للدين طريق اخر لهدانا اليه ولنهانا عن طريقتنا المعهودة ومن البين ان التسليم بماذكرنا يفضي الى نفي التعددية السروشية .
الملاحظة الثالثة: ان اصل التعدد السروشي مبني على تعدد الواقع المولد بدوره للتعدد على مستوى الكلام الا ان هذا الامر لايجري على اطلاقه في جميع الظروف والملابسات اذ من البين انه وفي بعض الفروض لايمكن احتمال التعدد اصلا كما في التعدد المستلزم لتناقض الواقع فعلى هذا لو قبلنا بما ذكره سروش من تعدد فلابد ان يقبل في غير فرض التناقض المذكور بعد الحكم باستحالة ان تكون مجموعة من المذاهب كلها على حق رغم تناقضها البين.
ان ماذكره الدكتور سروش في مقدمة كتابه الصراطات المستقيمة توحي بان الرجل كان ملتفتا لهذا اللازم الباطل لذا حاول ان يجيب عنه قائلا:"لعل الحقيقة الدينية الى درجة من الغموض والابهام ان الذهن واللسان يقعان في دوامة التناقض".
وهذا الجواب غريب حقا اذا المفروض ان الانبياء هم المستوعب الاول للحقيقة الدينية على مستوى الذهن والمعبر الاصيل عنها على مستوى اللسان فما معنى وقوعهم في دوامة التناقض؟؟ واي تغرير سيصيب الناس اذا كان سفراء الله الى خلقه يستوعبون الحقيقة الدينية ويعبرون عنها بما يوحي بتناقضهم ذهنا ولسانا؟؟!!!
لقد قالوا في علم الكلام :ان الاختلاف بين اي مرحلة من مراحل الوحي يؤدي الى نقض الغرض الالهي الامر الذي يستدعي وصول الواقع كما هو ولاغرو في مال كلام الدكتور سروش الى نقض الغرض بعد ايمانه بان التعابير النبوية عن الحقيقة الالهية انما هي من عنديات الانبياء انفسهم لذا اختلفوا ايما اختلاف فيها بعد تباين درجاتهم واختلاف مستوياتهم كما يوضحه في قوله:( فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم الوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود الى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا....ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....) كما انه يقول في مكان اخر:(....وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود).
واضح ان هذا النوع من التفكير السروشي يجعل ملاك التعدد الديني راجع الى اختلاف التجربة المعنوية التي يعيشها الانبياء في حين ان المعارف الحقيقية التي تتصل بالمبدأ الحق في عمومياتها واكثر تفاصيلها لا تنحصر في هذا الطريق ولاتحدد به حتى يرجع كل الاختلاف الحاصل بين الاديان اليها وذلك للحكم القطعي باستقلال العقل في ادراكها واقامة الادلة والشواهد عليها وكل التجارب الدينية انما تأتي مؤيدة لذلك الحكم العقلي السابق بل ان العقل هو الفيصل في قبول التجربة التي تنسجم مع حكمه ورفض التي لاتنسجم معه ومن هنا يكون الدكتور سروش مطالبا بتفسير اختلاف الاديان حد التناقض في المقولة الالهية مع افتراض استنادها جميعا الى دليل العقل وكيف يمكن التعبد بفهم ديني عن الذات الالهية المقدسة وصفاتها يناقض حكم العقل الضروري؟ ومن البين ان كل مباني البلوارية التي ذكرها لاتصلح جوابا عن ذلك.
ولايفوتنا ان نذكر هنا ان سروش في مقطوعته هذه يتجاوز السبب الرئيسي لتعدد الفهم واختلافه وانا هنا اتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا بطون متعددة ويستعيظ عنه بغموض الحقيقة الدينية التي تساوق الواقع!
واخيرا لابد من القول اننا قد نتفهم اختلاف تجليات الذات الالهية لكل نبي من الانبياء ونتفهم ايضا سر الاختلاف فيما بينهم الا ان هذا الاختلاف يبنغي ان يكون مقتصرا على المعارف الحقيقية المرتبطة بالحق وصفاته وهي غاية الكشف والشهود كما انها موضوع التجلي الالهي وعلى هذا يكون التعليل السروشي محددا بالاختلاف على مستوى الحقيقة الالهية فقط ولايشمل مفردات الدين الاخرى ومن الواضح ان حقيقة الدين ليست هي الحقيقية الالهية فحسب ومن هنا لايصلح السبب الروشي جوابا عن سر اختلاف الاديان خارج اطار الحقيقية الالهية.
قد يعترض علينا معترض فيقول: ان مقولة البلوارية الدينية تحاول قراءة الدين من الخارج في حين انكم تردون عليها من داخل الدين, وبعبارة اخرى: ان سروش يؤصل مباني بلواريته انطلاقا من المساحة التي تقع خارج الدين وعليه ينبغي لكم ان تحاكموه من نفس تلك الدائرة لا ان تنطلقوا الى ذلك من نفس الدين.
وفي صدد الاجابة عن ذلك نقول:
ان الدكتور سروش لم يلغ حقانية الدين بل وسع مقولة الحقانية نفسها لتشمل الاديان جميعا فضلا عن ان اكثر مباني البلوارية الدينية متفرعة على حقانية الاديان بعد اعتمادها على نظريات عرفانية ومقولات صوفية وهكذا شواهد تفسيرية وروائية ومن هنا صح لنا ان نحاكم مقولاته وفقا لرؤى الدين ومفاهيمه والا كانت معظم مبانيه التي هي اساس مقولة التعددية مقولات جدلية الزامية لمن يؤمن بها لااكثر.
الملاحظة الرابعة: ان الدكتور سروش وفي مقام شرح اسباب وعلل القول بالتعدديه الدينية يذكر ان هذا التعدد هو مقتضى الجهاز الادراكي للانسان لذا رأيناه في مقولة الارتداد يأخذ على الفقهاء عدم الالتفات الى هذه النقطة التي قد تكون سببا في تنوع الفهم المؤدي بالتالي الى الارتداد عن الدين ولانعرف لماذا خصص كلامه هنا في اتباع الاديان والاختلاف الديني مع ان الملاك المذكور شامل حتى لغير الاتباع وللاختلاف الفكري الاعم من الاختلاف الديني ؟
الملاحظة الخامسة: ان هذه النظرية تتكأ على اصل موضوعي يتعامل معه الدكتور سروش تعامل المسلمات ونحن هنا نتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا ابعاد والوان كثيرة وهو امر يحتاج الى اقامة الادلة والشواهد عليه اذ من قال ان الواقع بهذه الكيفية التي صورها الدكتور؟؟ وهذا مانزعم ان سروش لم يات بشيئ فيه اللهم الا ماذكره عن نظرية بطون القران التي اقصى ماتفيد بحسب بعض الاصوليين :
"كون اللفظ قابلا للانطباق على معاني متعددة لانه موضوع للكلي الذي يعم جميع المعاني تلك المعاني التي هي بمثابة افراد وتطبيقات لذلك الكلي"
و من المعلوم ان الاندراج تحت الكلي يلزم منه جهة اتحاد بين الافراد المندرجة فضلا عن جهة اختلاف وبيّن ان التعددية الدينية قد تلازم القول بتباين الحقائق حد التناقض بصورة لايوجد بينها اي جهة اتحاد واشتراك ومن هنا لانرى صلاحية نظرية بطون القران الكريم كدليل على مدعياة سروش كما ان الاستدلال بتعدد التجربة واختلاف الافهام على ذلك ربما يوحي بالدور الصريح.
الغريب ان سروش يرجع ظاهرة الاختلاف الاديان الى تعدد واقع الحقيقة الدينية وتبايين شخصيات الانبياء واختلاف ادراكاتهم نافيا في الوقت ذاته وبلغة جزمية متسرعة اي دخالة للظروف الاجتماعية والمصلحية في ذلك لذا نراه يصرح في هذا الصدد قائلا:(وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة...).
لوكان الدكتور يتحدث عن واقع الاديان بغض النظر عن الملابسات البعدية التي لصقت بها لسبب واخر لهان الخطب الا اننا وبقرينة نفيه لسببية الوقائع الاجتماية وغيرها نجد انفسنا مضطرين لحمل كلامه على الاديان في طور حركتها الاجتماعية التأريخية ومعه فلامبرر لحصر سبب التفاوت الديني فيما ذكر بعد كونه ادعاء غير مدلل ومبتن اساسا على دعوى سبق ان قلنا فيها قبل قليل انها بلا شواهد وادلة فضلا عن تخالفها مع الاديان نفسها التي ترى ان البشر اعمل ثقافته ومصالحه في مفاهيم الدين وتعاليمه مما ولد انحرافا وتحريفا وهذا مانجده في اكثر من مستند ديني:
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27
وقبل ان نغادر هذا النقطة يطالعنا سؤال ملح عن حقيقة الدين وجوهره في فلسفة سروش فاذا كان الواقع متعددا وذا ابعاد واذا كانت التجربة النبوية لاتدرك الا لونا واحدا وبعدا فاردا واذا كانت التفسيرات تتسم بالنسبية بعد اتكائها على الحقيقة ذات الالوان والابعاد فاين الدين وحقيقته في خضم هذه المعمعة؟؟؟
في ضوء هذا كله لانجد انفسنا مجانفين الصواب اذا قلنا ان الطريق اصبح معبدا للقول بنسبية الحقائق الدينية.
في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول سروش الاستعانة على مطلوبه بمقولات عرفانية وصوفية كشفية يمكن ان تشكل دعامة لمتدعياته ونحن لانريد ان نبخس حق العرفان ونسقط حجيته بالكلية وبالتالي تجريد سروش من اقوى اسلحته بقدر مانريد التحفظ على استحضار هكذا مقارباته هي اقرب للمذاق الصوفي منها للبرهان الفلسفي الكلامي في مقام ليس فيه للمذاقات والكشفيات غير المبرهنة محل ومن هنا كان اللازم على الدكتور ألا يتعاطى مع التجربة الصوفية الكشفية تعاطي المسلمات ويتعامل معها على اساس انها نقطة مفروغ عن البحث في حقانيتها وصدقها مع اننا نخال ان الدكتور يعلم ان كشف غير المعصوم ليس بحجة ولايتعد به مالم يقم عليه دليل رصين, وعلى هذا الاساس يمكن اعتبار المقولات السالفة مؤيدات لطروحة الدكتور اكثر مما هي مباني مستقلة بعد قصورها الدليلي الواضح.
في المبنى السادس يطالعنا استناد سروش الى اسم الله الهادي وبوسع المرء ان يزعم ان كلامه هنا يحوي تشابها في اكثره مع ذكره الشهيد مطهري-قد- في موضوع عمل الخير من غير المسلم في الفصل الثامن من كتابه القيم"العدل الالهي" , هناك يطرح مطهري الايمان المدلل والمعلل الذين ذكرهما سروش بعنوان الاسلام الواقعي والجغرافي ويصوغ استنتاجا عن الاقلية الناجية التي اسماها سروش بالشرذمة كا يذكر مطهري ان لازم قول المتشددين هو اسبقية غضب الله على رحمته تلك الفكرة التي يذكر سروش قريبا منها بعنوان فشل الخطة الالهية.
يذكر مطهري طرازين من التفكير يرتبطان بعمل الخير من غير المسلم قائم احدهما على الافراط والاخر على التفريط ثم يعالجهما بموضوعيته المعهودة فيخرج بطراز ثالث ومما جاء فيه: ان الكفر على نوعين: كفر على سبيل العناد والجدال ويسمى بكفر الجحود وكفر عن جهالة وعدم معرفة بالحقيقة ويؤكد ان الادلة القطعية تثبت ان الشخص العالم والمطلع على الحقيقة ومع ذلك يعاندها وينكرها فهو مستحق للعقوبة بخلاف الكفر من النوع الثاني فلابد من القول ان الجهالة وعدم المعرفة الناتجة عن غير تقصير من المكلف فهي تقع موقع عفو الله ورحمته مشيرا في الوقت ذاته الى عدم امتلاك الاسلام والكفر الجغرافيين اي قيمة للحكم بكون فلان مسلما او كافرا وهو في ذلك يقولفي ص325"فلو ان انسانا يتمتع بصفة التسليم للحقيقة ولكنه لعلل اخرى لم يهتد الى حقيقية الاسلام فهو لايكون حينئذ مقصرا والله سبحانه لايعذبه وانما هو من الناجين حيث يقول سبحانه:((وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا)) اي من المستحيل ان يعذب الله انسانا دون ان تكون الحجة عليه تامة, وعلماء الاصول يصطلحون على مفاد هذه الاية المؤيدة لحكم العقل باصطلاح((قبح العقاب بلا بيان)) ومعناه ان الله سبحانه اذا لم يبين الحقيقية كاملة لعباده فمن القبيح ان ينزل بهم عقابه, ولو بحثنا عن مثال لهذه الحقيقة فمن الممكن ان نجد افرادا يملكون ارواحا مستسلمة للحق وان لم يكن لها اسم الاسلام ...) ولايفوت الشيخ مطهري ان يستشهد بكلام استاذه العلامة الطباطبائي-قد- عندما يتحدث عن مفهوم الاستضعاف الذي هو ملاك تام لعفو الله ورحمته فقد جاء فيه فقرة ترتبط بما نحن فيه في ص370(....كذلك يتحقق_معنى الاستضعاف_ في من لم ينتقل ذهنه الى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره اليه مع كونه ممن لايعاند الحق ولايستكبر عنه اصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك).
وينبغي ان يكون واضحا ان نقطة الاختلاف المحورية بين مطهري وسروش هو ان توسيع الاخير لمقولة الهداية الالهية بحيث تشمل الاعم الاغلب من البشر وفق مبررات ذكرناها في بداية البحث الامر الذي لايظهر من مطهري الموافقة عليه وربما يكون ماذكره سروش خلطا بين الهداية والنجاة اذ ان مفهوم الهداية يستبطن وجود شيئ محدد يكون مهديا اليه ومضلولا عنه يكون هو الفيصل في معرفة الهداية من الضلالة ويسمى من عرفه مهتديا ومن لم يعرفه ضالا بقطع النظر عن المعذورية من عدمها في عدم المعرفة هذا , تلك المعذرية التي تكون ملاكا تاما للنجاة من المؤاخذة الالهية وللفوز بالنجاة الاخروية لا ان تكون ملاكا للهداية, وفي عقيدتي ان قول سروش هذا مبتن على القول بتعدد الحقيقية وتوزعها بين اطراف شتى اكثر من اعتمادها على اسم الله الهادي وان كان هو يصرح بخلاف هذا.
ان دليل اللطف الذي يحاول الدكتور سروش اقحامه في هذه النقطة لايصلح مبررا للقول بشمولية الهداية لغالبية الناس لانه وبكلا معنيه (المحصل والمقرب) لايعني الجاء الناس وقسرهم على الايمان بقدر مايعني فعل مايقرب الى الهداية ويبعد عن الضلالة وهو امر قد يجتمع مع اختيار اكثر الناس للضلال على الهدى وهذا ماسجله تأريخ الانبياء وجولات صراعهم مع طواغيت زمانهم وعلى هذا الاساس نقرأ كثيرا من الايات القرانية التي تؤكد هذه الحقيقة:
حتى اذا جاء امرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول ومن امن وما امن معه الا قليل.
قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}
أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون
بل ان المفهوم من الخطاب القراني كون عدم الايمان هو السمة البارزة لاكثر الناس وعلى طول الخط:
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}
الم اعهد لكم يابني ان لاتعبدوا الشيطان وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد اضل منكم جبلا كثيرا افلم تكونوا تعقلون.
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)
وغير ذلك كثير.
وعلى هذا فان سروش مطالب بتبرير منطقي لاجتماع الضلال والغواية مع وجود السفراء الالهيين وحتى قبل مبررات الاختلاف التي يذكرها من تباين الافهام وبشرية الدين وتفسير التجربة وغيرها وكيف صارت الاكثرية الساحقة من البشر في عصر النبوات من اهل الانحراف؟؟ واين اسم الله الهادي الذي اعتمد عليه في مبناه السادس؟؟؟
نحن نضم صوتنا الى صوت الدكتور سروش (في المبنى السابع والثامن) الداعي الى ضرورة وزن المعارف المذهبية والدينية بميزان الحق وعرضها على مايفترض صحته وحقانيته حتى لو قلنا بمقالته من عدم الخلوص والنقاء في عالم الطبيعة والشريعة بعد الايمان بما اسماه بشرية الدين الموجب لاختلاط الدين بافرازات الذهن البشري فان هذا كله لايعدم وجود مقياس صحيح وميزان موضوعي توزن به الحقائق وتقاس به المعارف نظير كل الحقائق والمعارف الثقافية الاخرى سواء قلنا باعتماده اليقين او الظن فان المشاهد ان الحال واحد من الناحية العملية سواء في المعارف النظرية او الطبيعية وهذا امر لاينكره سروش نفسه كما في قوله في ص210 من الدين العلماني:( ان المعرفة الدينية قابلة للنقد بمقدار ماعليه المعرفة العلمية ومرجعية الدين تكون مقبولة بمقدار ماتكون مرجعية العلوم الطبيعية مقبولة والقبض والبسط في المعرفة العلمية يساوق ويوازي القبض والبسط في المعرفة الدينية...... فصحيح ان المجتمع الليبرالي قائم على هذه المباني الفكرية ولكن في دائرة العمل من خلال عملية النقد والتحليل المستمر تكاملت الرؤية الليبرالية بالنسبة الى الدين والعلم بحيث لايمكن السماح بعدها بتجاوز بعض المبادئ والاسس التي تقوم عليها الحداثة ) وكيف كان فلو لم نقل بذلك فلن نصل والحالة هذه الى مقولة حق وصدق ولصرنا مقسورين على الايمان بنسبية الحق والباطل تلك المقولة التي يرفضها سروش نفسه.
ولايفوتنا ان نسجل هنا اكثر من نقطة:
الاولى: انه وبناء على توجيه سروش لظاهرة اختلاف الاديان تبعا لاختلاف شخصيات الانبياء وتباين ادراكاتهم فان مرحلة بشرية الدين تبدأ من هذه النقطة اي قبل وصول الوحي الالهي للناس.
الثانية: ان سروش يعترف بجريان القبض والبسط حتى على المعارف الطبيعية تماما كجريانها في المعارف الدينية لكنه يعلل عدم تجاوز بعض اسس الحداثة بتعدد عملية النقد والتحليل المؤدية الى تكامل الرؤية الليبرالية بالنسبة للدين والعلم ومن هنا فلماذا لايجري هذا الامر بالضبط في المعارف الدينية اليقينيةالضرورية على نحو لايسمح بتجاوز بعض الاسس الضرورية التي تقوم عليها الاديان تبعا لعملية النقد والتحليل المؤدين الى التكامل المعرفي ؟؟
الغريب في المبنى الاخير ان سروش يجعل الايمان الدليلي المبتني على معطيات علم الكلام ذريعة للقول بالتعددية الدينية باعتبار ان نتائج علم الكلام نتائج ظنية لاترقى الى مستوى الجزم واليقين وهو هنا يأخذ على المحنى الصوفي اتجاهه الجزمي باعتبار ابتناءه على الكشف والشهود ونقطة الغرابة ان سروش نفسه يستفيد في اشادة مباني بلواريته من المعطيات العرفانية الكشفية كما رأينا وهي قائمة باعترافه على القطع واليقين الشهودي فكيف يحاول هنا ان ينسف ما بناه سابقا؟؟!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق