يتبنى السيد الشهيد الصدر قد نظرية (اللاتفريط في الاسلام) وهو في سائر مؤلفاته يدافع عنها وبشدة, وتقوم هذه الفكرة على اساس(.... انه ثبت في الدين الاسلامي ، بانه : ما من واقعة الا ولها حكم ،الامر الذي ينتج ان كل القضايا المعروضة والمشكلات الموجودة ، على الصعيد البشري بمختلف حقوله اختصاصات مشمولة لاحكام الشريعة الاسلاميةلا محالة ) ماوراء الفقه ج4 بحث المصارف.

هذه الفكرة طرحت في كلمات الاعلام والمحققين المسلمين وهم فيها على اتجاهين:

الاتجاه الاول:ارجاع كل المعاملات الجديدة الى بعض المعاملات القديمة واكتساب الجديدة مشروعيتها الفقهية من خلال مشروعية المعاملات القديمة التي ثبت سلفا صحتها,يعرض السيد الشهيد هذا الاتجاه ويرى انه مبنى مشهور الفقهاء المتأخرين بما فيهم استاذه الشهيد محمد باقر الصدر قد والذي نراه انه انما خص استاذه بالذكر لانه حاول ان ينّظر لبنك لاربوي في الاسلام ومن هنا يقول طيب الله ثراه في المصدر السابق ج4 ص18)....اننا نحتاج في صحة المعاملة الى انها كانت موجودة فعلا فيما سبق . او اننا نحتاج في التصحيح الى ارجاع المعاملات الجديدة الى بعض المعاملات القديمة ، بشكل من اشكال التكييف الفقهي ، كما حاول بعض اساتذتنا ان يفعل ، وهو الاسلوب المشهور بين الفقهاء المتاخرين حين يريدون ان ينظروا في صحة المعاملات المصرفية(مثلا) . فان صح لهم طريق ما في تكييف المعاملة افتوا بصحتها والا افتوا ببطلانها.)
وتجدر الاشارة الى ان هذا الامر غير مختص بالمعاملات المصرفية ولا بالمعاملات مطلقا بل يشمل معرفة حكم كل مسألة مستحدثة من مسائل العلوم الحديثة,نعم ذكر قدس المعاملات المصرفية من باب المثال ومناسبة الحديث في تكيفها الفقهي.


الاتجاه الثاني:ان الكتاب والسنة يحويان حكم كل مسألة من المسائل الحياتية بابعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها نعم وجود هذه الاحكام على نحو(القوة) وليس من الضروري ان تكون موجودة بالفعل لذا يحتاج الامر اعمال نظر واستنباط من قبل الفقيه المتخصص لذا يطلق في الفقه على هذه المسائل عنوان:(الموضوعات المستحدثة) , ومن الفقهاء من يكتفي في صحة هذه المسائل بعدم وجود ردع عنها في الشريعة ,وعلى هذا يقول رحمه الله في ص18:( 
فهل نستطيع ان نقول : ان كل معاملة مستحدثة مهما كان مضمونها صحيحة شرعا ما دامت غير مخالفة لما هو ثابت فقهيا وشرعا.....), ربما يتضح الجواب بعد البحث والتعمق والذي من خلاله سنعرف رؤية سيدنا الصدر في هذا الصدد واي اتجاهيين يختار.


في مبحث المال وبيان حقيقته وهو المبحث الاول الذي نحاول استشراف افكار سيدنا الشهيد من خلاله, يرى السيد الصدر ان فكرته عقلائية قامت عليها سيرة العقلاء وجرى بناؤهم على التعاطي معها ,والشارع الحكيم لم يات بجديد في هذه المسألة على نحو التأصيل والتأسيس بل اجرى ماعليه العقلاء ولم يردع عن هذا التباني كليا,نعم الشارع قيّد هنا واضاف شروطا هناك ولم يكن بالضرورة موافقا لعادة العقلاء في التعامل مع المال وعلى هذا لايقتصر مفهوم المال على(النقد)فقط وفقط بل يشمل كل عرض منقول او غيره على نحو يكون له تأثير في قضاء احتياجات الانسان لذا يقول قدس في ص394 من 34 من وراء الفقه:





لا شك ان فكرة المال ليست عقلية او منطقية، وانما هي اجتماعية وعقلائية تبانى عليه المجتمع لاجل ازجاء حاجاته وتسهيل تبادلاته، ولاجل ان يقل الاجحاف بين المتعاملين الى اكبر قدر ممكن.
ولا نقصد بالمال: النقد، باي قسم من اقسامه، وان كان هذا منه. الا ان فكرته في الحقيقة اوسع من ذلك. اذ ان كل عروض منقول او غيره، مما له دخل في قضاء حاجة من الحاجات مهما كانت تافهة، يشعر العقلاء، عندئذ ان له مالية بنحو او باخر.
فاالمالية مفهوم كلي، قد يتحقق في النقد باي قسم من اقسامه، وقد يتحقق في العروض، وقد يتحقق في الذمة، مع الدين مثلاً. وقد يتحقق في موجودات الطبيعة، كالنبات او الحيوان الذي لم تمسه يد لامس).

اما عن تأريخ ظهور المال والمالية فيرجعه قد الى الحاجة التي لايمكن تصور انفكاكها تأريخيا عن عملية التبادل الانساني المرتبطة باحتياجتاته مهما كان شكل التعامل المالي ساذجا وبدائيا لذا يقول قد:


فقد يأتي الى الذهن: ان الشعور بالمالية لا ينسجم مع بيع المقايضة الذي كان ساري المفعول آلافاً من السنين. اذ لو كانوا يشعرون بها لجعلوا شيئاً بمثلها كالنقد الذي جعله المجتمع في العصور الاخيرة.
اذن فالشعور بالمالية مواكب نسبياً مع جعل النقد وليس قبله.


الا انه يمكن النقاش في ذلك ببعض الوجوه:
اولاً: اننا سنعرف ان الشعور بالمالية ناتج عن الشعور بالحاجة، ولا شك ن هذا الشعور كان موجوداً يومئذ. اذن، فالشعور بالمالية كان موجودا، مهما كان غامضاً.
ثانياً: لو كان الشعور الاجتماعي بالمالية منعدما لما تحدد مقدار التبادل في المقايضة، مع العلم انه لا شك ان التسالم عندهم على بيع مقادير محددة، ولو نسبياً. وهذا يعني الشعور بالمالية ولو نسبياً. 
نعم، لا شك ان الوضوح التام، للمالية، وسد الباب امام التلاعب المحتمل لم يوجد الا بعد صدور او قل: عند صدور النقد. بمعنى ان من عرض فكرة النقد، لا شك انه كان شاعراً بالمالية.
غير ان صدور النقد وتداوله في المجتمع ليس بالعهد القريب، بل لعله سابق جداً، الى عدة آلاف من السنين. حيث وجد النقد في بعض صوره عند الفراعنة، كما قلنا في فصل سابق، وفي الصين والهند. وكان في صدر الاسلام موجوداً بكل تأكيد، بل قبل ولادة المسيح عليه السلام بكل تأكيد ايضا.
والمهم ان هذا كله لمجرد الاطلاع وليس له اثر فقهي او قانوني او اجتماعي عادة.


يبحث السيد الصدر في موضوع المال في عدة جهات:

الجهة الاولى: في سبب حصول المالية للاشياء.

ويتطرق اولا الى الوجه المشهور بل الاشهر عند الاقتصاديين الرسمأليين وهو:



الندرة النسبية، وهو الوجه الذائع الشائع بين الاقتصاديين على المستوى الرأسمالي.
فكلما كان العروض اكثر توفراً، كان اقل ثمناً، وكلما اصبح اقل زاد ثمنه. فالقلة والغلاء، وكذلك الكثرة والرخص يتناسبان تناسباً طردياً.
وفي صدد تقيمه لهذا الوجه يقول في ص396:

وهذا صحيح نسبياً في السوق الحرة عن التدخل الحكومي، او قل السوق الرأسمالية. غير اننا اذا نسبناه على بعض الوجوه الاتية، لم نجده هو الاساسي.
فمثلا: اذا نسبناه للرغبة او للطلب، وهما وجهان آتيان، وجدنا ان قلة التوفر قد تقترن بقلة الرغبة او بقلة الطلب فلا توجب فرقاً في الزيادة، كما ان الكثرة في العرض قد تقترن بالكثرة بالرغبة او الطلب، فلا توجب فرقا في نقيصة الثمن.
كما ان الشيء قد ينقص توفره قليلا، الا ان ثمنه يصعد كثيراً نتيجة لزيادة الرغبة او الطلب، بشكل غير معهود وهكذا.
اذن، فالندرة النسبية، ليست هي السبب الاساسي في زيادة الثمن وقلته، ولكنها تكون جزء السبب في كثير من الاحيان وسيأتي ما يزيد هذه الجهة وضوحاً.
اما عن الوجه الثاني في سبب حصول المال فهو ماتتبناه المدرسة الماركسية وهو
العمل البشري. 

(.....من زاوية: ان خامات الطبيعة، حال وجودها الطبيعي تبدو تافهة وغير ذات قيمة، وانما تبدأ القيمة او المالية، من حين حصول العمل البشري عليها وتجسده فيها كقطع الاشجار واستخراج المعادن وغير ذلك كثير. عندئذ يكون للمادة الخام شكل من اشكال المالية. ورتبوا في ذلك نتائج معينة في فلسفتهم (المادية التاريخية) لا حاجة الان الى الدخول في تفاصيلها. بعد ان ناقشناها بكل تفاصيل في كتابنا (اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني).
وتعليقا على هذه المبنى الماركسي يرى قد انه ولوحده غير كاف في تفسير سببة حصول المالية ويناقشه بعدة مناقشات:
المناقشة الاولى: اننا لو اقتصرنا على هذا المقدار لصعب علينا تعيين مقدار المالية التي حصلت له، فان مجرد كونه مالا لا يعني اننا نعرف مقدارها. او قل: ان العمل لا يمكنه ان يعين مقدارها.
والماركسية تجيب عن ذلك عادة: ان عمل اليوم للعامل الواحد، يأخذ منه من القوة البدنية ما يعوضه بوجبات اليوم الواحد. فيكون لما يخرجه خلال اليوم الواحد، ذو قيمة كقيمة ما يأكله في اليوم الواحد. 
وهذا واضح الفساد جدا، لوضوح ان الناس يختلفون في مقادير ونوعيات طعامهم من ناحية وفي مقادير ساعات عملهم ومقدار نشاطهم وخيراتهم من ناحية اخرى. وقد بحثنا ذلك مفصلا في الكتاب المشار اليه فراجع.
المناقشة الثانية: اننا لو نسبنا هذا الوجه الى بعض الوجوه الاتية كالرغبة او الطلب، وجدنا ان الرغبة قد تكون موجودة فيما لم يحصل عليه عمل كالسمك في النهر او الحيوانات في الصحراء. وهذا يعني ان تلك الامور ذات مالية خلافاً لما قالوه.
فان ضممنا الحاجة اليه، وهو وجه اخر من اسباب المالية، كان الامر واضحاً. اذ لا شك ان البشرية تحتاج الى هذه الخامات حاجة شديدة، ويكفي ايضاحاً لذلك اننا نفترضها قد زالت من الوجود، فلا تستطيع البشرية ان تحيا بعدها الا اياما معدودات.
اذن، فقول الماركسيين ان خامات الطبيعة ذات وجود تافه وغير ملفت للنظر، كلام تافه وغير ملفت للنظر.
المناقشة الثالثة: اننا لو نسبنا هذا الوجه الى الوجه الاول وهو الندرة النسبية، لوجدنا ان الشيء مع حصول ندرته النسبية ترتفع قيمته بدون ان يكون عمل جديد قد اضيف اليه.
وكذلك لو نسبناه للرغبة، من زاوية زيادتها فيما هو متوفر في السوق نسبياً، فانها تقضي زيادة القيمة من دون حصول أي زيادة في العمل. 
المناقشة الرابعة: ما ذكره بعض اساتذتنا بايضاح منا:
انه لو كان العمل هو الاساس، كانت بعض الامور رخيصة جداً، مع اننا نجدها غالية والحرص عليها شديداً، وكان يمثل برسالة كتبها جد الانسان مثلا. فانها غالية في نظره ومحترمة جداً. بالرغم من ان العمل فيها ضئيل جدا لا تعدوا ان تكون كتابة صفحة واحدة او عدة اسطر.
وهذا يشمل الكتب المخطوطة واللوحات القديمة. فان اقيامها اضعاف ما بذل فيها من عمل. يكفي في ذلك ان ترى بوضوح ان قيمتها يوم كتبت كانت ارخص بكثير من قيمتها اليوم. بدون حصول أي عمل جديد عليها.
اقول: وهذا شكل من اشكال نسبة الرغبة كسبب في زيادة القيمة الى العمل كسبب لها. فان الرغبة هنا مؤثرة دون العمل.
تصل النوبة الى الوجه الثالث: من اسباب حصول المالية او القيمة وهو (الطلب) ويرى السيد الصدر انه الوجه التقليدي في علم الاقتصاد حتى قيل: اذا زاد الطلب زاد الثمن. يعني ان زيادة الطلب تتناسب تناسباً طردياً مع زيادة الثمن، وبالعكس.
والمقصود بالطلب كثرة الذين يبحثون عن المادة في السوق ويطلبونها. 
ويناقش السيد الصدر في استقلالية هذا الوجه وعدمها قائلا:

وهذا الوجه، وان ارجعناه الى الحاجة او الى الرغبة التي هي من بعض الوجوه الاتية، فهو ليس وجهاً مستقلا عنها. وانما يكون مندرجاً فيها. ولا يمكن ان تكون مندرجة فيه، لان الحاجة والرغبة هي السبب في الطلب، لوضوح ان الانسان قلما يطلب مالا يحتاجه. والنظر الى السبب، وهو الرغبة او الحاجة اولى من النظر الى المسبب وهو الطلب. لانها سبب اعمق على أي حال.
وان نظرنا الى الطلب كسبب مستقل، وهو غير مستقل على أي حال، فينبغي ان ننسبه الى الندرة النسبية، كما نسبنا الندرة اليه. لوضوح ان زيادة الطلب مع زيادة التوفر لا ينتج ارتفاعاً في القيمة، ولا ان قلة الطلب مع قلة التوفر منتج لانخفاضها.

ومن هنا اعترف جملة من الاقتصاديين: بان كلا من الندرة النسبية والطلب معا مؤثران في زيادة القيمة، وليس احدهما بحياله.
وجوابه عندئذ ينحصر في ان الطلب ناتج لا محالة من الحاجة او الرغبة، فلابد من النظر الى سببه ولا يكون هو الاساسي.
ولا يوجد شخص يتصرف تصرفاً معقولاً يشتري مالا يحتاجه اصلا. الا اذا كان سفيها تماماً.
واما الندرة النسبية فلو عزلنا الحاجة والرغبة عنها، لم يكن لها اثر في القيمة او زيادتها او نقصها، لان معناه: ان ما لا يحتاجه الناس اطلاقاً هل له قيمة او لا. ومن الواضح الجواب بالنفي، سواء كان ذلك نادراً او متوفراً.


تقوم روح الوجه الرابع من اسباب القيمة على كون الحاجة سببا اساسيا في تحقق المالية,وتدور زيادة القيمة وقلتها مدار ازدياد الحاجة وقلتها فكلما ازدادت الحاجة الى الشيء ازدادت قيمته، وكلما قلت الحاجة قلت القيمة.
وينبغي ان يكون واضحا ان المقصود بالحاجة اعم من الحاجة الفردية والاجتماعية.

غير ان السيد الصدر قد لايرتضي هذا السبب ملاكا تاما لتحقق المالية لذا يناقشه مسجلا عليه اكثر من مناقشة:
(اولا: ان هذا الوجه يفترض فيه ما هو المعتاد من زيادة الطلب مع زيادة الحاجة. الا ان هذا ليس دائمياً اذ كثيراً ما يطوي الفرد حاجته في داخله ويسكت ولا يبحث عن السلعة اصلا، او يبحث عنها قليلا وبشكل متثاقل لا يمثل مقدار حاجته.
وذلك لاسباب عديدة، كعدم التعرف على طرقات البلد. او المانع الصحي او القصور العقلي او التقدم في العمر. او بعض درجات الزهد. الى غير ذلك. وفي مثل ذلك اعني حين يطوي الفرد حاجته في داخل نفسه ويتحمل صعوبتها. لا يكون لها عندئذ أي مردود اقتصادي بالمرة.
واذا كان سبب من هذه الاسباب المشار اليها، قليلا، فان مجموعها ليس بالقليل.
غير ان هذا لا ينافي اننا حين نتحدث عن الطبيعة العامة للبشر نجد ان الطلب يزداد بزيادة الحاجة بلا اشكال. ومعه لا تكون هذه المناقشة قوية ضد هذا السبب.

ثانياً: ان الانسان كثيرا ما يطلب اشياء ليست في حاجته. لا بمعنى ان الحاجة منعدمة بالمرة. بل بمعنى ضئالتها وتفاهتها عقلائياً واجتماعياً، الى حد قد تثير الدهشة او السخرية. واستطيع القول ان امثال ذلك في عصورنا الحاضرة بين الناس كثير جدا.
ومعه فمن المستطاع القول بعد اخراج امثال هذه الحاجات عن كونها حاجات واقعية، كما هو الواقع، فمعنى ذلك ان الطلب قد يكون بدون حاجة. ومثل هذا الطلب يؤثر في زيادة القيمة بدون ان يكون وراءه شيء من الحاجة).


في الوجه الخامس نرى ان الرغبة من اسباب القيمة وهي تتناسب طرديا مع القيمة فكلما ازدادت الرغبة ازدادت القيمة وبالعكس. ولابد من القول ان الرغبة الاجتماعية والرغبة الفردية ملحوظان بنظر الاعتبار تماما كما كان الامر في الحاجة من قبل. فان الرغبة تشابه الحاجة من هذه الناحية. 
السيد الصدر يرى ان الرغبة تحتوي على نقطة قوة وافتراق عن الحاجة بالنسبة الى الطلب، فانها واقعة وسطاً بين الحاجة والطلب. بمعنى ان علتها الحاجة ومعلولها الطلب.
فاذا نسبناها الى الحاجة، وجدنا ان كل رغبة ناشئة من حاجة بالدقة، الا انه ليس ضرورياً ان تكون كل حاجة منتجة للرغبة .


يطرح الشهيد الصدر تساؤلا قد يخطر في الذهن: انه بعد ان عرفنا ان الرغبة والطلب متساوقان واحدهما تعبير عن الاخر، فلماذا نتحدث عن الرغبة لا عن اللطب؟؟ مع ان المشهور بين الاقتصاديين ان السبب للقيمة هو الطلب؟؟؟.
وجوابه عند السيد الصدر الثاني:
ينحصر في ان الرغبة هي الاسبق والطلب هو المتأخر في الرتبة، بمعنى انها سبب له، والحديث عن السبب حديث عن المسبب.
على انهما مهما كانا متساويين، فان الرغبة تعبر عن جانب نفسي والطلب يعبر عن جانب خارجي او عن تصرف واقعي. ومن المعلوم ان الجانب النفسي مضافا الى كونه هو المنشأ للفعل الخارجي، فانه هو الذي يجعل الفرد على استعداد ان يبذل المال الاكثر في الحصول على المرغوب. فكلما ازدادت الرغبة ازداد هذا الاستعداد، وكلما قلت قل الاستعداد. وهذا المعنى لو لاحظناه بشكل اجتماعي عام هو الذي يكون مؤثرا حقيقياً في القيمة.
غير ان الجهة النفسية، وحدها لا معنى لتأثيرها الا بالمقدار الذي تعبر به عن نفسها في الفعل الخارجي وهو الطلب وقلنا ان الطلب متساوق مع الرغبة بمعنى ان هذه الجهة النفسية ملازمة عادة مع الطلب.
نعم تبقى فكرة نسبتها الى الندرة النسبية، وحيث انها مساوقة مع الطلب، فيكون الحديث عليه، كما سبق حديثاً عنه بعينه.
اما الاشكال الذي ذكره الاقتصاديون قبل قليل فالسيد يسجل عليه وجهين من المناقشة: 

الوجه الاول: ان المهم ان نلحظ الرغبة المساوقة للطلب، كسبب للقيمة، بغض النظر عن الندرة النسبية.
الوجه الثاني: اننا ينبغي ان لا نلحظ الرغبة والندرة كسببين مستقلين بل السبب هو المحصلة في النسبة بينهما.
فلو زاد العرض والرغبة معاً، بقيت النسبة محفوظة، فلم يحصل السبب لنقص القيمة، واذا قل العرض والرغبة بقيت النسبة هي هي، ولم يحصل السبب لزيادة القيمة.

اما عن السبب الرئيسي في اختلاف القيمة فان الشهيد الصدر يرجعه الى اختلاف النسبة المذكورة اعلاه اعني النسبة الحاصلة بين الرغبة والندرة وذلك يحدث حين يبقى احدهما ثابتاً والاخر متغيراً. او ان يتحرك احدهما باسرع مما يتحرك الاخر، فيكون سبباً في تغير النسبة، فيكون سبباً في اختلاف القيمة. واذا كان مراد من يقول بان السبب في اختلاف القيمة هو الرغبة والندرة او الطلب والندرة معاً هو ذلك، فهو لا يعدو الصواب.

والسيد الصدر يؤكد مع هذا على ان للجانب النفسي تأثيراً عميقاً في تغير القيمة او المالية. وهذا الجانب النفسي مما يؤثر عليه العلم ببعض الامور لا محالة .
فانه في حدود ما ذكرناه، فان الجانب النفسي للمشتري مع زيادة الرغبة هو ان يبذل مقدارا اقل من المال ويقبض مقدارا اكثر من البضاعة. والجانب النفسي للبائع عندما يلاحظة رغبة المشتري هو ان يستغل هذه الرغبة فلا يعطي له المتاع الا ببذل مقدار اكبر من المال. 
وهذا هو السوق الاعتيادية الموجودة في الاغلب، غير ان المرجع الصدر يسجل على هذه الحالة استثناءات عدة.

منها: ما اذا كان البائع راغباً بالبيع اكثر من رغبة المشتري بالشراء، فان الامر يكون بالعكس مع علم المشتري بهذه الرغبة لدى البائع، الامر الذي يدعو البائع لبيع عروضه باقل مقدار من الثمن.
ومنها: صورة الجهل بقوة الرغبة عند الاخر. فيأخذ الامر اعتيادياً. ولا يخطر في باله زيادة القيمة.
وهذا الجانب النفسي هو الباعث على ما قيل: من ان من مصلحة البائع هو يبيع اقل مقدار ممكن باكبر ثمن ممكن ومن مصلحة المشتري هو اخذ اكثر مقدار ممكن باقل ثمن ممكن.
وهذا الجانب هو الذي يبعث الناس على الاحتيال في المعاملات. بمختلف الاساليب فانه من جنس الشهوات النفسية. والشهوة لا عقل لها، بل تريد الاعراب عن نفسها بكل صورة. فقد تبرز في صورة الغش او في صورة الغبن او الربا او التدنيس او غيرها من صور الاسترباح غير النظيف.
فلو لم يكن هذا الجانب موجودا او كان خفيف التأثير كان الامر اهون بكثير، نذكر منه جانبين:
الجانب الاول: ان البائع اذا كان مشفقاً على المشتري، بحيث لايريد ان يستغل رغبته في زيادة الثمن بكل حال. كما لو كان صديقه او اخوه في الدين او نحو ذلك. فان الموقف وان اقتضى الزيادة في الثمن سوقياً، الا ان الجانب النفسي لا يساعد على ذلك. فيبقى الثمن محفوظاً على مستواه.

في الجانب الاخر يستعين بما ذكره استاذه الصدر الاول من: ان الحل الامثل لمشكلة تناقض دوافع الافراد هي التنازل عن بعض الحقوق وهي نظرية تبرر ظهور الاديان وتكوّن المجتمعات وبالتالي بروز اشكال التعامل الاقتصادي والاجتماعي رغم ان السيد الصدر يستعين بهذه النظرية في خصوص بحث التعامل الاقتصادي او التجاري لذا يقول:

ادرك الانسان انه لو استغل كل جهوده في استغلال الانسان الاخر، لاصبح هو المتحمل للضرر ايضا، لانه قد يستغله الاخرون كما هو يستغلهم. ومن هنا كان اللازم تنازل كل طرف عن بعض مصلحته وتطرف شهواته، للالتقاء في منتصف الطريق، بحيث لا يكون ايا منها قد القى اجحافاً كبيراً على الشخص الاخر. ومن هنا جاء التعامل والتراضي على المعاملة. قال تعالى: (ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض منكم).
واما اذا ادرك الانسان انه اذا استغل الاخرين، فانه سيكون في مأمن من استغلالهم له وايذائهم اياه. فانه من الناحية النفسية سوف يزداد سوءاً في الاستغلال. ما لم يكن متصفاً بنفس طاهرة وقلب نظيف.
وهذا هو الشأن الذي سار عليه الاستعمار، بل كل اشكال الاستغلال الرأسمالي، وهو النقطة الرئيسية للضعف في هذه الفلسفة الاقتصادية.

يلخص السيد الصدر السبب في زيادة القيمة وقلتها سوقياً، وهو النسبة بين الندرة النسبية والرغبة النفسية المنتجة للطلب.
ونحن ان غضضنا النظر عن هذا الارتفاع والانخفاض، فمعناه اننا غضضنا عن الندرة النسبية، وقصرناه على الرغبة المنتجة للطلب وهي في الواقع السبب لحصول اصل المالية، كما كانت هي السبب في تحركها زيادة ونقيصة.


يحاول الشهيد الصدر تلخيص السبب الاساسي في حصول المالية فيقول:
...... فالرغبة الناتجة عن الحاجة او عن غيرها بخامات الطبيعة، هي التي تجعلها ذات اهمية في نظر البشر، ومن ثم ذات قيمة. وليست تافهة كما قالت الماركسية، كما ان العمل ليس له دخل في ايجاد المالية، وانما له دخل في امكان الاستفادة من المال، اذ مع وجوده في موطنه الطبيعي قد يتعذر غالباً الاستفادة منه. وليس ذلك دائمياً ايضا كما سنشير.
وهذه الرغبة، هي التي تنتج الطلب والطلب هنا هو العمل على حيازة هذه الحاجات ونقلها من مواطنها الطبيعية. فان الطلب هو البحث عن المواد، فان كانت المواد في السوق طلبناها من السوق وان كانت في الطبيعة طلبناها من الطبيعة.
وكما قلنا هناك، فان الرغبة هي السبب والطلب هو المسبب، ولا يوجد الطلب بدون رغبة، والنظر الى السبب اولى، وان كان كلاهما متساوقان عادة.
وفي الموارد التي يمكن او يراد فيها استغلال الطبيعة بدون حيازة او قطع او فصل كما في التنزه في الصحارى او الغابات او الانهار او التدفيء بالطاقة الشمسية ااكل الثمرة وهي على شجرتها، فان الطلب يعني قصد هذه الاماكن للاستفادة منها.
وقد يخطر في البال: انها مجانية وليس له قيمة. اذن، فالمهم هو العمل البشري على الحيازة لتتخذ قيمتها.
وجوابه: انها وان كانت مجانية عملياً، الا انها ذات قيمة. فلو ادفأنا شخص بمقدار دفيء الشمس لاستحق علينا المال طبعاً وهذا معناه تحقق المالية في اصل الطبيعة. نعم، لا يمكن ان يستفاد منها في غير مواطنها الطبيعية ولا يمكن تسويقها الا بالعمل، وهذا شيء اخر غير معنى الحصول على المالية.


بعد ان تبين ان المالية معنى مفهومي او كلي قد ينطبق على ما في الخارج، وقد ينطبق على ما في الذمة. واذا بقي هذا المعنى على كليته، لا يمكن الاستفادة منه سوقياً.
اذن، فلابد من ايجاد شيء يكون هو الممثل الرئيسي للمالية، لكي يكون هو المحك والمعيار في مالية سائر الاشياء لذا يبين السيد الصدر تحت عنوان 
الجهة الثانية: فيما يمثل المالية سوقياً وعقلائياً.



وهو يرى ان العقلاء اتفقوا وفي العالم كله، على حصر هذا المعنى وتعيينه في الذهب. ولا يهمنا البحث عن السبب في هذا التعيين لانه لا دخل له اقتصادياً على الاطلاق. وان كان المظنون ان اهميته الجمالية في نظرهم وندرته النسبية في اسواقهم وعدم قابليته للصدأ على ما قيل، هي التي حدت بهم الى هذا التعيين. مع الاعراض عن امور نادرة جداً الى حد قد يصعب قياس الاشياء بها كبعض الاحجار الكريمة.
وليست الفضة محكاً للمالية، وان صاغوها على شكل عملة تاريخياً وخلال قرون طويلة. بل بقيت على أي حال منوطة بالذهب في تقييمها كسائر الاشياء.
والذهب هو المحك بصفته ذهباً بعد تصفيته على شكل سبائك، سواء حصل على شكل نقود ام لا. ولا نعلم ما اذا كانت قيمة النقود الذهبية اغلى من قيمة وزنها ذهباً، بمقدار يزيد على اجور عملها كنقد. بل المظنون عدم كونها كذلك.
هذا مضافاً الى اننا يجب ان نلاحظ ان الذهب الذي كان منظوراً لافراد المجتمع ومتداولاً بينهم هو النقد والحي، ولم يكن للسبائك وجود منظور بشكل عا. وحيث كانت النقود هي الممثل الاصلي للمالية، اذن، فالمحك عندهم هو الدنانير الذهبية، لا الذهب بذاته. وان كان هذا لا يخلو من تسامح من قبلهم على أي حال.
والصحيح هو اعتبار الذهب بذاته، والدنانير انما يكتسب قيمتها بصفتها مصداقاً له. واذا انعدم تداول الدنانير الذهبية، كان الذهب هوالمحك ايضا. وليس للدنانير دخل في ذلك اصلا. وهذا هو الشعور العقلائي العام في المجتمع الاوسع من تلك التي تستعمل الدنانير الذهبية، بحيث تشملها وغيرها. ويكون لها الحكم الاصلي والرأي الاساسي. بل انهم لم يختاروا الذهب كمادة لصنع الدنانير الا من اجل ذلك.
ومالية الذهب، كما هو في مالية النقد لدينا، يعني النظر اليه واليها كمال خالص او تجريدي، ليمثل مفهوم المالية الكلي تمثيلا تاماً. ومعنى ذلك غض النظر، في هذه المرحلة، عن خصوصيته واوصافه من حجمه ولونه ونحوها.
ويتضح ذلك في النقود المتداولة حالياً، فاننا نتداولها، بصفتها مالاً تجريدياً، لا بصفتها الخاصة، من معدنها وكتاباتها وحجمها، بدليل على انها لو كانت بحجم اخر او أي صفة اخرى لكانت تمثل نفس المقدار من المالية، على الفرض.
وقد تفتق الذهن البشري اولا عن صناعة النقد من الذهب نفسه ليكون هو المحك المباشر لقيمة الاشياء.
الا انه بالتدريج ثبت وجود بعض نقاط الضعف فيها:
اولاً: ثقل وزنه بصفته معدنا وخاصة اذا تزايد العدد.
ثانياً: صعوبة عده مع الحاجة الى الكثرة.
ثالثاً: عدم امكان اصدار نقود ضخمة تمثل قيمة مالية عالية، لانها سوف تكون سمجة جداً بالذوق العام كما هو واضح.
رابعاً: ان اغلب اشكال الدنانير الذهبية التي كانت متداولة مغشوشة ومخلوطة بغيرها من المعادن، بشكل قد يكون مضبوطاً وقد لا يكون. ونحن بالتالي لا نكون قد تداولنا الذهب بذاته او بكامله ثمناً للاشياء.
وصناعة الدنانير الخالصة لم يكن ممكنا عملياً، لصعوبة السيطرة على الصانعين، يومئذ، مضافا الى ان الذهب بنفسه مادة قليل الصلابة بالنسبة الى غيره من المعادن، فقد يكون ذلك سبباً لاعوجاج النقود او انمحاء كتاباتها، الامر الذي يسقطها عن التداول، مما يحتاج الى اضافة معادن اخرى وخلطها معها.
فلهذه الاسباب ونحوها تفتق الذهن البشري عن صناعة نقود من مواد خف ثقلا كالورق والقصدير، ونحوه. ليمكن بها تلاقي جميع نقاط الضعف السابقة بما فيها امكان اصدار عملات ذات قيمة عالية، وان كانت خفيفة وصغيرة نسبياً في حجمها الظاهري,
الا ان هذا الاسلوب اصطدم باشكال جديد، وهو ان هذه المواد انما ترجع ماليتها الى الذهب، كسائر الاشياء، فهل يحدد قيمتها بقيمة مادتها او بشكل اخر. وكيف تختلف قيمتها عن قيمة مادتها؟ وهذا ما حصل!
فقد سكّت الحكومات النقود الورقية وامعدنية، واختلفت قيمتها عن اقيام موادها، وهي دائماً اكثر منها، ولا يمكن ان تكون اقل بأي حال.
واما الوجه التحليلي او الفني في هذه الخطوة، فهو ان الحكومات عند اصدار هذه العملات تتعهد بابدالها ذهباً اذا اراد أي فرد مالك لها الابدال. وبهذا اكتسبت النقود قيمة مالية تملك فكرة مالية الذهب تماماً.
ولكن عدداً من الحكومات وجدت ان هذا الاستمرار بهذا التعهد يعني سحب كثير من الذهب من المصارف الامر الذي يضر باقتصادياتها العامة. فاصدرت القوانين المانعة من هذا التبديل.
ومن هنا بقيت قيمتها نفسها، ولكنها ممنوعة من التبديل بالذهب.


وبالرغم ان هذا الاسلوب اصبح واقعاً في كل دول العالم ومن هنا لابد من التسليم بوجوده الا انه لايخلو من اشكالات عدة يذكرها الشهيد الصدر.

فمن هذه الاشكالات:

اولا: ان هذا التعهد لا يعني اعطاء قيمة حقيقية للمادة، بعد ان كانت قيمتها (الجعلية) اكثر من قيمتها الواقعية، التي هي قيمة مادتها. فلو لم يكن للفرد (غطاء) من ممتلكاته ما يساوي نقوده، وبالتالي ما يساوي الذهب الذي ينبغي ان يقبضه من المصرف، لم يكن بازاء النقد أي مقابل.
ثانياً: السؤال عن المقدار الذي يقوم التعهد باعطائه من الذهب. فانه ليس مقدارا محددا وانما هو تابع لقيمة الذهب بالاسواق العالمية وهذا يعني ان قيمة العلمة مجهولة عملياً وغير محددة في الواقع.
ثالثاً: ان هذا الاسلوب يعني من ناحية: تجديد سعر الدينار بالذهب. لانه انما اكتسب المالية به. ولكنه من ناحية اخرى: فان سعر الذهب محدد بسعر الدينار. واذا اعتمد احدهما على الاخر كان معناه عدم التحديد كما قلنا في الايراد السابق. ولكن بشكل اكثر وضوحاً.
والسر فيه: هو حصول ما يشبه الدور في المنطق والدور مستحيل. فلو فسرنا العين بحاسة البصر وفسرنا حاسة البصر بالعين، لم نرجع الى محصل عند من يجهلها تماماً.
والنسبة الى الدينار، لو لم يكن معتمدا على قيمته في الاسواق العالمية ومنسوباً اليها، لكان اعتماد احد القيمتين: الذهب والدينار على بعضهما منتجاً: اننا لا نرجع الى نتيجة وتحديد لاي منهما.
رابعاً: انه بعد الغاء هذا التعهد بالتبديل، ماذا يبقى من القيمة الجعلية او الاعتباري للنقود؟ سوف لن يكون لها أي اثر حقيقي سوى حفظ الظاهر في السوق. يعني القدرة على تقييم نسبة بعض البضائع الى بعض.
وهو تقييم مجازي لا محالة، لان النقد لا يقوم بقيمة مادته، ولا تعهد فيه على التبديل بالذهب اذن، فهو لدى التدقيق لا قيمة له.
خذ اليك مثلا: لو اصدرت احدى الحكومات او المصارف النقد ذهبياً ولكن باكثر من قيمة مادته مرتين مثلا. فماذا الذي يبرر ان ندفع بازائه كيلوين من الحنطة بعد ان كانت مادته لا تساعد الا على كيلو واحد مثلا، انه سوف يكون بلا مقابل تماماً.
ومن المعلوم ان القيمة الاعتيادية للدينار اضعاف قيمة مادته بالف مرة او اكثر. فما الذي سوف يقابل هذا الفرق؟
وبالرغم من هذه الاشكالات، فمن الناحية التطبيقية استطاعت النقود ان تحفظ اسعار المواد وتسهل التبادل في السوق وتمنع الاجحاف الموجود في المقايضة، تماما كما كان الدينار الذهبي يفعله. والمجتمع لا يريد اكثر من ذلك، ولتذهب هذه الاشكالات الى الجحيم.
هذا كله على المستوى النظري العام اما على المستوى الفقهي فالسيد يناقش في حجية التداول بهذا النقود وذلك: ان الاصل في المالية هو الموجودات الطبيعية، بما فيها الذهب، وهذا يكون بالمقايضة بين العروض بما فيها الذهب ايضا الذي هو الاساس في مالياتها.
ومعه فالانتقال الى اسلوب استعمال النقد يحتاج في حجيته الفقهية الى احد امرين:
الامر الاول: ان يكون النقد بنفس قيمة مادته، كما هو الحال في الدينار الذهبي. وهذا يرجع بفكرته المنطقية الى المقايضة بالذهب لا اكثر ولا اقل.
الامر الثاني: انه ان لم يتوفر الامر الاول، وكان النقد اعلى قمية من مادته، فتداوله يشكل سيرة عقلائية، وهذه السيرة تحتاج الى اقرارها من قبل المعصومين (ع) لتكون حجة. وهذا متوقف على ارتقاء هذه السيرة الى عصر المعصومين عليهم السلام، لتكون تحت نظرهم واقرارهم. واما اذا كانت سيرة متأخرة فلا تكون حجة. كسائر اشكال السيرة، كا هو مبرهن عليه في علم الاصول.
ونحن وجدنا لا نعلم بوجود هذه السيرة في عصر المعصومين (ع) لنعلم باقرارها. لاننا لا نعلم ما اذا كانت النقود في عصرهم ذات قيمة اكثر من مادتها او بمقدارها. واذا لم تتم السيرة عليه لم يكن في التداول بها حجية.
ولا يمكن ان يكون ذلك مشمولا للعمومات، لفرض ان القيمة الجعلية اكثر من الحقيقة بكثير. فتكون اجحافاً واكلا للمال بالباطل بدلا ان تكون تجارة عن تراض، فتأمل.
وتجريد السيرة التي كانت متحققة يومئذ عن الخصوصية، لتشمل كل اشكال النقد، حتى ما كانت قيمته اكثر من مادته، غير ممكن لان السيرة دليل لبي(عقلي) يقتصر فيه على القدر المتيقن.

ويجيب السيد الشهيد عن هذا الاشكال الفقهي بصورة مقتضبة بقوله:
غير اننا يمكن من ان نرجع الى عمومات اوسع مما اشرنا اليه، مثل قوله: الزموهم بما الزموا به انفسهم. او قوله: دعوا الناس على غفلاتهم. او قوله: كلموا الناس على قدر عقولهم. الشامل للافعال ايضا والتعامل بنحو من انحاء التوسع والتجريد. وتمام الكلام في الفقه.

في الجهة الثالثة وهي تحت عنوان : في شمول حكم الصرف فقهياً للدنانير.
في هذه الجهة يحاول السيد الصدر بيان حقيقة بيع الصرف مما كان متداولا في عصر النص وهل ان حكم دنانير اليوم وعموم العملة الحالية تأخذ حكم الصرف المعروف سلفا اولا؟؟
وتفصيل ذلك:

الصرف هو بيع الاثمان بالاثمان، ويراد بها الذهب والفضة. وفيه شرطان اساسيان:
احدهما: تساوي الكميتين اذا كان ذهباً بذهب او فضة بفضة. خروجاً عن حصول الربا البيعي فيها عند التفاضل.
ثانيها: التقابض في المجلس. بمعنى ان يحضر كل من المتعاملين ما لديه ويدفعه فورا قبل التفرق.
فهل يشمل هذان الحكمان نقودنا المتداولة، مما تحدثنا عنه من ذوي القيمة الجعلية في أي دولة من الدول ام لا؟


يطرح الصدر الثاني رأي استاذه الشهيد الصدر الاول الذي قسم ذلك الى عدة اقسام مع توجيه النقد الممكن لتوجيهاته قد:

القسم الاول: سماه بالاوراق النائبة عن الذهب. هي التي تمثل جزءا من رصيد ذهبي موجود فعلا في خزائن الجهة التي تصدر تلك الاوراق النائبة.
القسم الثاني: النقود الورقية التي تمثل تعهدا من الجهة المصدرة لتلك الاوراق بصرف قيمتها ذهباً عند الطلب.
القسم الثالث: نفس القسم السابق مع تفسيره بمعنى اشتغال ذمة تلك الجهة بقيمة الورقة من الذهب.
القسم الرابع: نفس القسم الثاني بعد اسقاط التعهد والمنع من التبديل بالذهب.
اما القسم الاول([1]) : فقد شرط فيه التساوي في الكمية كالذهب نفسه. دون الحكم الاخر وهو التقابض لان هذا الحكم في رأيه خاص ببيع الذهب بالفضة، على حين تمثل الاوراق بيع الذهب بالذهب فلا يكون مشمولا لهذا الحكم.
واما القسم الثاني بمقدار ماعرفناه، فهو غير مشمول لحكم الذهب على الاطلاق.
ولكن القسم الثالث مشمول للحكم الاول. دون الحكم الثاني وهو التقابض ايضا. واستنتج من ذلك قائلا([2]): وهذا لا يعني انه لا يجوز مواكبة اسعار الصرف لهذه الاوراق التي تتغير صعوداً او هبوطاً نتيجة لعوامل عديدة.
واما القسم الرابع([3]): فقد قال عنه: فان كان الاعفاء يعني الغاء الديون التي كانت الاوراق النقدية سندات عليها. وتحويلها الى اوراق نقدية الزامية، فهذا يؤدي الى خروج التعامل عن نطاق الذهب.
واما اذا كان قانون الاعفاء يعني السماح للجهة المصدّرة بعدم وفاء الدين الذي تمثله الورقة النقدية في نطاق التعامل الداخلي، مع الاعتراف قانونيا ببقاء الديون التي تمثلها تلك الاوراق. فلا تخرج بذلك عن حكمها قبل الاعفاء. اقول: وهذا يعني شمولها لحكم القسم الثالث.
هذا ولم يعين قدس سره احد هذه المحتملات كرأي يتبناه ويختاره بل اقتصر على تعدادها وتعداد نتائجها.
والسبب الرئيسي فقهياً الذي دفعه الى شمول حكم الذهب في بعض الاحيان للنقود الاعتيادية، هو كون النقود على بعض المحتملات تشكل سندا لما في ذمة الجهة المصدرة من الذهب. فالتبادل في الحقيقة وان كان بالنقود ظاهراً، الا انه بذلك الذهب الموجود في الذمة واقعاً. ومن هنا كان مشمولا لحكم الذهب.
يقول الصدر الثاني قد:
ولنا على ذلك عدة تعليقات:

اولا: ان هذا تابع لوجود الذمة للجهة المصدرة، وهذا تابع لما سوف يأتي في الفصل الاتي من تحقيق ماهي الشخصية المعنوية التي تكون حجة شرعياً وفقهياً. وسنرى هناك: ان اكثر الجهات المعاصرة، بما فيها المصارف ليست جهات معنوية، فلا يكون لها ذمة.
ثانياً: الجهة المصدرة ان كان هو المصرف، فهذا الكلام منه قد يكون وجيها. ولكنه خلاف المفروض، فان الدولة وليس المصرف هي المصدر للعملة دائماً. حتى وان كانت باسم المصرف نفسه.
والغطاء الموجود لدى المصرف هو الذهب، واما الغطاء الموجود لدى الدولة فهو الذهب وغيره، بل الاكثر هو غير الذهب كالمعادن والحيوان والنبات وكل ما تستطيع الدولة استغلاله في ايفاء ديونها وازجاء حاجاتها. اذن، لا يكون التبادل بين النقود تبادلا بين الذهب ولا الفضة.
ثالثاً: ان المفهوم عرفاً من هذا التعهد، لدى وجوده، هو الوعد بايجاد معاملة جديدة لشراء الذهب من قبل مالك الدينار. يعني تمكينه من ذلك وعدم حجب الذهب عنه لو اراده.
وليس معناه كون النقود غطاء لما في ذمة الجهة المصدرة للنقود فان هذا لا يخطر في البال عرفاً وسوقياً. ومعه لا يكون التعامل بالنقود تعاملا بالذهب على الاطلاق، مع وجود التعهد فضلا عن صورة الغائه.
رابعاً: اننا لو تنازلنا جدلاً عن الاشكالات السابقة، فيكون معنى التبادل في النقود تبادل بين كميتين من الذهب المضمون في الذمة وليس بين كميتين فعليتين من الذهب.
فهل الذهب الذمي مشمول لحكم الذهب الحقيقي في الحكم. مع وضوح اختصاص الادلة بخصول الذهب الخارجي. ولا اقل عدم شمول حكم التقابض في المجلس لو قلنا به.
وعلى أي حال، فالناتج من البحث في هذه الجهة: ان التبادل بين العملات غير الذهبية ولا الفضية في اية دولة، غير مشمول بحكم الذهب بكلا حكميه.

[1] :ص149.

[2] :ص151.

[3] :ص152.