تنويه مهم جدًا: الموقع لا يزال في طور الإعداد، ونعتذر عن عدم الترتيب والنقص.

الأحد، سبتمبر 11، 2011

الاسلام وحرية الاعتقاد . ابن الرافيدن 14

السلام على الاخوة والاخوات رواد شبكة هجر الثقافية ايها الافاضل نزلت في ساحتكم وحللت ناديكم وفي رحلي بضاعة مزجاة راجيا ان تنال استحسانكم وتصويبكم جعلتها باكورة مشاركاتي في هذه الشبكة المباركة واملي بالله ان تكون فاتحة خير لاسهامات اخر.

الحرية نزعة فطرية اصيلة في اعماق الانسان تدفعه الى التحرر والانعتاق من القيود والاغلال والتاريخ الانساني في مسيرته الطويلة في احد وجوهه عبارة عن تاريخ الكفاح الانساني للانعتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية كما ان الاصل في الانسان ان يكون حرا بعد كون الحرية هي الاصل الطبيعي التي يتساوى فيها الجميع ولذا يقول الامام علي بن ابي طالب ع:(ايها الناس ان ادم لم يلد عبدا ولاامة وان الناس كلهم احرارا) ويقول في حديث اخر مخاطبا الانسان بما هو انسان:(لاتكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا), ونحن نرى ان هذه الكلمات وامثالها تنطلق من اساس فكري قراني محدد الا وهو الاعتقاد بكرامة الانسان بما هو انسان بغض النظر عن كل وصف زائد على انسانيته لذا جاء الخطاب القراني بتكريم الانسان على اساس ادميته غاضا الطرف عن كل مايكون مدعاة للتمايز من عرق او لون او دين او قومية او غير ذلك( ولقد كرمنا بني ادم) ومن الطبيعي ان كل قيد وكل غل يؤدي الى تثبيط طاقات الانسان وقواه التكاملية سيكون خلاف مبدا التكريم لذا كان الحال الاولي للانسان هو الحرية تلك النعمة التي لايمكن ان يعدلها شيئ اطلاقا مهما كان كبيرا وعزيزا لذا ورد في جواب موسى ع لفرعون لما قال له(اولم نربك فينا صغيرا) فكان ان اجابه الكليم ع:( وتلك نعمة تمنها علي ان عبدت بني اسرائيل).
والجدير بالذكر انه قد ذكرت للحرية تعريفات متعددة واقساما عديدة لسنا هنا في صدد سردها واستقصائها بيد اننا نكتفي بذكر قسم واحد من هذه الاقسام لانه محور حديثنا ومحل كلامنا ونعني الحرية العقيديّه تحديدا ميممين وجوهنا شطرها.
الحرية بين الفكر الاسلامي والاوربي
الفلسفة الاوربية تجعل احترام العقيدة نابعا من احترام اختيار الانسان فقد جاء في مقدمة اللائحة العالمية لحقوق الانسان:(اساس الحرية والعدل والسلام العالمي الاعتراف بالكرامة الذاتية لااعضاء الاسرة الانسانية كافة) ومن هنا فان ضرورة احترام كرامة الانسان الذاتية تملي ضرورة احترام ميوله ورغباتة وما ينتخب من افكار واراء,وبتعبير اخر يمكن القول ان كل انسان لما كان محترما فلابد من احترام كل عقيدة يؤمن بها ولو كانت اتفه العقائد واشدها اهانة للانسان واكثرها تناقضا مع شأنه ومكانته, وهذا يعني ان الناس لو امنوا بعبادة البقر او الصنم او اي عقيدة اخرى فلابد من احترام عقائدهم على اعتبار انهم قد اختاروا هذه العقائد بانفسهم.
ان الفكر الاسلامي يرى ايضا ان احترام الحرية نابع من الكرامة الذاتية للانسان بيد ان هذه الكرامة الذاتية لم تصبح منطلقا لضرورة الاحترام الا لان ناموس الخلقة الغائي اوجبها على اعتبار ان الاسلام يؤمن بان الانسان يسير في هدف تكاملي وغاية طبيعية يريد الوصول لها كانت هي الغرض الاساس من اصل وجوده ويتجلى كل ذلك بالقرب الالهي( ياايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه),(وان الى ربك الرجعى) ومعنى القرب الالهي كما هو مقرر في علم الكلام الاسلامي ان يكون الانسان مظهرا لجمال الله وجلاله وبتعبير اخر : لما كان الله تعالى خيرا مطلقا وعدلا مطلقا وعلما مطلقا وغنى مطلقا ورحمة مطلقة وقدرة مطلقة وهكذا كل الصفات الكمالية التي يجب ان يتصف بها وكل الصفات السلبية التي لابد ان ينزه عنها وجب على الانسان ان يتخلق بالاولى وان يزيح عن نفسه الثانية لذا يتعين ان تكون المسيرة الانسانية كفاحا متواصلا باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر وغيره مع الالتفات الى ان هذا الجهاد ليس تكريسا للاله بقدر ماهو جهاد من اجل الانسان وكرامة الانسان وتحقيق المثل العليا له:( ومن جاهد فانما يجاهد لنفسه ان الله لغني عن العالميين).
والنتيجة الطبيعة لهذا الاختلاف بين الفكرين هو ان الفكر الاسلامي لايرى الاحترام لاي عقيدة تثبط قوى الانسان التكاملية وتحول بينه وبين غاية خلقه ووجوده حتى ولو كانت من انتخاب الانسان واختياره لذا يتعين على الانسان ان يحرر نفسه من كل قيد تفرضه عليه كل عقيدة تكون حائلا بينه وبين غاية وجوده, لكن يبقى الكلام في الالية المتبعة لتحرير الانسان من هذه العقائد وهذا ماسنحاول معرفتة في مستقبل البحث باذن الله.
الاديان السماوية ومنطق الحجة
اذا تاملنا القصص القراني لاسيما المتعلق منه بجهاد الانبياء مع اقوامهم فسنجده في الغالب جهادا يغلب عليه طابع الحكمة والموعظة الحسنة ففي قصة نوح ع مع قومه كان شعاره يتمحور حول نقطتين اساسيتين: ذكرهما القران الكريم بقوله:( ولقد ارسلنا نوحا الى قومه فقال اني لكم نذير مبين ألا تعبدوا الا الله اني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم) ولما حاججه قومه وعيروه بان من اتبعه هم خصوص الاراذل اجابهم:(ياقوم اريتم ان كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده فعميت عليكم انلزمكموها وانتم كارهون؟؟).
وسنجد هذا الامر اكثر وضوحا في قصة شعيب ع الذي جعل الاصلاح هدفه الرئيسي مستعينا بالله متوكلا عليه:(ومااريد ان اخالفكم الى ماانهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح مااستطعت وماتوفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب).
وفي قصة موسى وهارون تصبح القضية على درجة معتد بها من الوضوح اذ يقول القران الكريم:(اذهب انت واخوك باياتي ولاتنيا في ذكري اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا ليّنا لعله يتذكر او يخشى). والشيئ الملفت للنظر في قصة ابراهيم ع مع قومه هو قول القران الكريم على لسانه:(فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم) الامر الذي يوحي بانه اوكل امر من خالفه وعصاه الى الله الغفور الرحيم فهو حتى لم يطلب انزال العذاب عليهم .
والذي نستشفه من هذه الشواهد وغيرها ان منطق الحجة والاقناع والتعامل السلمي هو الطابع العام الذي كان الانبياء يتبعونه مع قومهم ولم يحدثنا القران الكريم عن نبي من الانبياء او رسولا من الرسل استعمل منطق القوة في فرض دعوته وارغام الناس على اتباعها والتصديق بها وينبغي ان يكون هذا من الاحكام العامة للنبوة التي لاتختص بنبي دون اخر وبزمن دون اخر فهذا هو المفهوم من مجمل القصص النبوي في القران الكريم.
حرية الاعتقاد في الاسلام
لقد قلنا قبل قليل ان منطق الحكمة والموعظة الحسنة هو المنطق العام للنبوة وان هذا المنطق من الاحكام العامة التي يشترك فيها جميع النبيين لان الارادة الالهية شاءت ان يكون الانسان مخيرا في اتباع الهدى والضلال ليتحمل بالتالي نتيجة عمله(ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة) ومن هنا لم يكن الاسلام بدعا من الاديان الالهية الاخرى في اتباع نفس المنهج والسير على نفس الطريق وعلى هذا شواهد كثيرة من القران الكريم:
(ولو شاء ربك لاامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)( فاءن اعرضوا فما ارسلناك عليهم حفيضا ان عليك الا البلاغ)(فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر الا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الاكبر ان الينا ايابهم ثم ان علينا حسابهم)(وقل الحق من ربك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(انا هديناه السبيلا امّا شاكرلا وامّا كفورا)(لااكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)(ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن)
وهذه الايات وغيرها تركز على نقطة جوهرية واحدة هي اعطاء الحرية الكاملة للانسان في الايمان وعدمه وألا وجود للاكراه في مسألة الايمان لذا يقول العلامة الطباطبائي صاحب التفسير الشهير الميزان:(العقيدة بمعنى حصول ادراك تصديقي ينعقد في ذهن الانسان ليس عملا اختياريا للانسان حتى يتعلق به منع او تجويز او استعباد او تحرير وانما يقبل الحضر والاباحة هو الالتزام بما تستوجبة العقيدة من الاعمال). ويضيف سيد قطب على ذلك قائلا:(اذا كان هذا الدين لايواجه الجنس البشري بالخارقة المادية القاهرة فهو من باب اولى لايواجهه بالقوة او الاكراه ليعتنق هذا الدين تحت تأثير التهديد او مزاولة الضغط القاهر والاكراه بلابيان ولااقناع والاقناع).
اننا نفهم ان للحرية دائرتين اساسيتين :الاولى: فيما يتعلق باعتناق الاسلام وعدم اعتناقه وهذه قد اعطى الاسلام فيها الحرية كاملة للفرد كما هو صريح الايات السابقة,والثانية: انه لو اختار الانسان البقاء على دينه الاصلي فهل يسوغ له ذلك؟؟ ومع جوازه هل له ممارسة طقوسه وشعائره العبادية بحرية ام يحضر عليه ذلك؟؟
اما بالنسبة للشق الاولى من النقطة الثانية فلااشكال ولاشبهة بضرورة الفقه والتأريخ مؤيدا بما قامت عليه سيرة المسلمين ان الانسان لايقسر على ترك دينه اذا كان متبعا لدين سماوي وبحسب التعبير الفقهي اذا كان من اهل كتاب شريطة ان يعطي ضريبة مالية(وبعض الشروط الثانوية) تكون علامة كاشفة عن انضوائه تحت الدولة الاسلامية مع الالتفات الى ان هذه الضربية تقل كثيرا عما يدفعه المسلمون انفسهم من ضرائب مالية كالخمس والزكاة وبعد هذا فهو يمتلك الحرية الكاملة في ممارسة شعائره الدينية وطقوسه العبادية وشؤونه الحياتية حتى وان كانت مخالفة لما عليه المسلمون ولو تأملنا مكاتيب النبي الاعظم ص معهم لوجدناها طافحة بااحترام خصوصياتهم وحفظ حقوقهم وعدم التدخل في شؤونهم الخاصة فقد كتب النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لأبي الحارث بن علقمة أسقف نجران: : 
(بسم اللّه الرّحمن الرحّيم. من محمّد النبيّ إلى الأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم ، أنّ لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيّتهم وجوار اللّه ورسوله ، لا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا شيء ممّا كانوا عليه ما نصحوا وصلحوا فيما عليهم غير مثقلين بظلم ولا ظالمين )
ومن كتاب اخر له ص جاء فيه:
(ولا يغيّر أسقف من أسقفيّته ، ولا راهب من رهبانيّته ، ولا حبيس من صومعته ، ولا سائح من سياحته ، ولا يهدم بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ، ولا يدخلُ شيء من مال كنائسهم في بناء مسجد ولا في منازل المُسلمين فمن فعل شيئاً من ذلك فقد نكث عهد اللّه ، وخالف رسُولهُ ، ولا يحملُ على الرّهبان والأساقفة ، ولا من يتعبّد جزيةً ولا غرامةً ، وأنا أحفظُ ذمّتهم أينما كانُوا من برّ أو بحر ، في المشرق والمغرب والشّمال والجنُوب. وهُم في ذمّتي وميثاقي وأماني من كُلّ مكرُوه)

ولاتجد عبائر ابلغ في التدليل على وجب الاحسان للاقليات الدينية من قول النبي الاكرم ص:( من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته فانا حجيجه يوم القيامة) وقوله الاخر( من اذى ذميا فانا خصمه ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) الى غير ذلك من التعابير التي تصب في نفس الاتجاه

.
وينبغي ان يكون واضحا ان ضريبة الجزية تكون قابلة للاسقاط راسا وفقا لمبررات موضوعية تتصل بالحالة السياسية والاجتماعية والثقافية وليست هي حكما مؤبدا لاتستطيع الدولة الاسلامية احداث تغيير فيه, هذا كله اذا كانت ثمة دولة اسلامية او مجتمع اسلامي بالمعنى العلمي للكلمة بمعنى وجود دولة تنتهج الخط الاسلامي وتعتبر الاسلام هو القاعدة الحياتية في مجمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية...وغيرها
اما اذا عدمت هذه الدولة فلايجوز لاي احد ان يتعرض لهم بسوء باعتبار ان جميع الخطابات التنظيمية انما هي خطابات للدولة والمجتمع الاسلامي لاللافراد بماهم افراد فليس من حق اي احد ان يخلط بين الخطابات المتعلقة بشؤون الافراد وتلك المتعلقة بشؤون الدولة وادارة المجتمع لما يترتب على ذلك من الوان الفساد العظيم واختلال الامن الاجتماعي وتعكير الحياة العامة المعلوم حرمته في الاسلام. 
ومن هنا يظهر ان الحقوق العامة لااتباع الديانات السماوية سواء العبادية او غيرها مكفولة لهم في الاسلام في كل حال من الاحوال.
يبقى الكلام فيمن لايدين بدين ولاينقاد الى شريعة سماوية وهولاء يمكن مناقشة وضعهم ضمن فرضين:
الاول: الجانب المفهومي
ونعني به قراءة المسألة قراءة نظرية تجريدية بعيدة عن ملابسات الواقع واملاءاته مع ملاحظة ان الفكر الاسلامي يرى للظروف الموضوعية اثرا بالغا في تغير كثير من الاحكام الشرعية وفقا لما يعرف بالعنوان الاولي والثانوي للاحكام, ولتحديد النتيجة المتوخاة من هذه القراءة يمكن الاستعانة بالشواهد العملية التي تضمنها التاريخ الاسلامي تجاه اولئك الذين لم يكونوا يدينون بدين سماوي بل بقوا على عبادتهم للاوثان وعكوفهم عليها فمن المعروف وبحسب تتبع الاحداث التأريخية ان مختلف انواع الكفار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الاسلامية السنية والشيعية من غير نكير يذكر بل ان معابد النار في القرن العاشر الهجري بعد فتح فارس من قبل المسلمين بثلاثة قرون كانت تملأ العراق وفارس وكرمان وسجستان وخراسان واذربيجان حتى انه لم تخل مدينة من مدن فارس من معبد او معابد لعبادة النار كما يقول بعض المؤرخين ومن قبل كانت سيرة الرسول الاعظم ص قائمة على اساس عدم جبر احد على الاسلام فانه لما ظفر باصحاب بدر وكانوا مشركين لم يقتلهم بل اخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم وهكذا صنع باهل حنين والـتأريخ يحدثنا ايضا ان غير واحد من صناديد قريش ورموز الشرك بقوا على شركهم بعد وقت طويل من فتح مكة معقل الكفر والوثنيية وفي نفس السياق نجد الامام علي ع يملي على واليه مالك الاشتر النخعي عهده الشهير لما ولاه مصر الذي ضمنه واحدة من انفس عبائره حينما قال:(واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم ولاتكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فانهم صنفان:اما اخ لك في الدين واما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل وتوتى على ايديهم في العمد والخطاء فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه فانك فوقهم ووالي الامر عليك فوقك والله فوق من ولاك) وهو خطاب مملء بوجوب المحبة والرحمة والرأفة للانسان بما هو انسان بعد كونه اما اخ في الدين اونظير في الخلق, ولعله لهذا وغيره يقول المحقق السبحاني في مفاهيم القرأن ج2ص405(فلأجل هذه الحرية لايجوز ان ان يجبر كافر كتابيّ او غير كتابيّ على اعتناق الاسلام اويمنع وثني اذا اراد أن يعتنق احدى الشرائع الكتابية الاخرى او اراد ان ينتقل من وثنية الى وثنية اخرى او يتحول يهودي الى النصرانية او نصراني الى اليهودية).
ويزيد العلامة محمد مهدي شمس الدين قائلا:(وحتى المشركون الكفار وان كانوا لاينتمون الى ديانة معينة ويعكفون على عبادة الاصنام والاوثان فان الاسلام لايقسرهم على ترك ديانتهم ولايرفض وجودهم في ظله بل شأنهم كااتباع الاديان الاخرى(الى ان يقول) وحينما يقبل الاسلام بوجود سائر الاديان والاتجاهات ضمن مجتمعه وفي ظل دولته فانه يمنحهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائر اديانهم والقيام بطقوس عباداتهم وتنفيذ تعاليمها واحكامها) وستكون المسألة اكثر وضوحا مع تسالم الكثيرمن فقهاء الشيعة على اشتراط وجود الامام المعصوم في اي نوع من انواع الجهاد الهجومي او في تطبيق الكثير من الاحكام والحدود التي قد تؤدي الى الدماء.
الثاني: الجانب العملي
ونعني به اخذ ملابسات الواقع واملاءاته وظروفه الموضوعية سواء منها الفقهيةاو الاجتماعية او الثقافية وحتى السياسية وغير ذلك وستكون النتيجة مشابهة تماما لما توصلنا اليه في الجانب الاول حتى لو لم نكن نتفق مع تلك النتيجة على مستوى الواقع النظري الا اننا ملزمون بالاخذ بها عمليا بعد كونها نتاج املاء العوامل السابقة التي ذكرناها عما قريب وهذا الذي سارت عليه اجيال المسلمين في التعاطي مع هذه القضية
وقد يقال(وقد قيل فعلا) ان من طبائع الاشياء انها تنفي نقائضها ومن الواضح ان الاسلام باعتباره دين التوحيد يناقض اشد المناقضه كل مايتصل بالوثنية فكيف يسمح لما يطاله بالصميم من ان تكون له فسحة من حياة؟؟ وهل تسمح القوانيين المعاصرة في ارقى البلدان الديمقراطية بظهور مايخالف نفس قوانينها او يناقض اصلها الذي تتكيء عليه؟؟ ان الجواب المنطقي هو كلا لاسيما وانه جاء في تعريف الحرية عند الحقوقيين خصوصا عند مونتسكيو بانها(حق صنع جميع ماتبيحه القوانيين فاذا استطاع احد ان يصنع ماتحرمه القوانيين فقد الحرية), اذن يجب ان تؤطر الحرية باطار القانون وألا تكون معارضة له ولأاصله الفكري الذي يتكيئ عليه ومن المعلوم ان الاسلام يقيم سائر احكامه وتشريعاته وقوانينه على اساس التوحيد ومن البين كم هو البون شاسعا بين التوحيد والوثنية لذا فان الاسلام لايبيح اي نوع من انواع الحرية لكل مايتصل بما خالف شرعة التوحيد وهو في ذلك ليس بدعا من قوانيين الدنيا.
اننا نتحفظ على هذا الكلام لاكثر من سبب:
الاول: ان هذا الكلام كله كلام استحساني ذوقي لايمكن ان يكون أساسا شرعيا في التعامل مع المخالفيين العقائديين بعد عدم وروده في اصل قرأني او روائي يمكن معه الركون اليه والوقوف عنده لانه سيكون حيئذ حكما شرعيا مستفادا من مصادره العلمية فيجب التعبد به اما مع عدم وروده في الادلة الشرعية فلاوزن له عمليا.
الثاني: لو كانت المسألة مسألة نقيض وتعارض مع القانون والاصل الذي يتكأ عليه فانه يجب والحال هذا تعميم الامر الى معظم الاديان المنسوبة الى السماء لانها لاتخلو من عقائد ومفاهيم تمس اساس التوحيد كما هو واضح لمن تأمل القران الكريم الذي يشنع في العديد من اياته على كثير من العقائد المنحرفة عن اصل التوحيد والفطرة السليمة ومع هذا سمح لتلك الاديان بالحياة وحفظ كرامة اتباعها واطلق لهم حريتهم في اقامة شعائرهم وطقوسهم التي قد لاتخلو من شرك.
الثالث:ان قضية التعارض وجعلها ملاكا في قبول هذا الدين او ذاك ليست امرا عاما مأخوذا في جميع الاحوال والاوقات حتى وفق رأي من يتبناها لانهم قائلون بان الظروف والملابسات الواقعية قد تدفع الى غير ماتبنوه ومعها اين دعوات مناقضة القانون او الاصل الذي يتكأ عليه في هذه الحالة؟؟


اية السيف
يزعم الكثير ان اية السيف كما تسالم على تسميتها وهي قوله تعالى:(قاتلوا الذين لايؤمنون بالله ولاباليوم الاخر ولايحرمون ماحرم الله ورسوله ولايدينون بدين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)اقول يزعم ان هذه الاية تنافي كل الايات التي استدل بها في مقدمة البحث والدالة على الحرية الدينية حتى قيل انها ناسخة لجميع تلك الايات!!
ونحن هنا نسجل اكثر من ملاحظة:
الاولى:ان هذه الاية نفسها حتى لو تم ماقيل بشانها من قتال اهل الكتاب من دون مبرر موضوعي لاتصلح ان تكون شاهدا على الاكراه الديني بدليل انها جعلت اعطاء الضريبة المالية (الجزية) غاية انتهاء القتال معهم فبمجرد دفعهم لهذه الضريبة التي تكون عادة كناية عن اطاعة الدولة الاسلامية سيكف عنهم ولو كانت القضية قضية اضطهاد ديني واكراه على ترك دينهم لما رضي منهم الا بالتحول الكلي عن دينهم واتباع الاسلام وهذا امر لم يذكره القران الكريم ولم يقل به احد.
الثانية:ان القاعدة الاولية للتعامل مع اهل الكتاب هو عدم القتال الا لمبرر موضوعي اما لقتالهم المسلمين لقوله تعالى:(وقاتلوا الذين يقاتلونكم ولاتعتدوا ان الله لايحب المعتدين) او القائهم الفتنة بين المسلمين لقوله تعالى:(والفتنة أشد من القتل) او امتناعهم من اعطاء الجزية للدولة الاسلامية حال وجودها ومطالبتهم بها لنفس الاية التي استدل بها.

حروب الاسلام والا كراه الديني

لم يثبت ان الجيش الاسلامي بأمر الرسول (ص) قد هاجم مدينةً آمنةً أو مجتمعاً آمنا مسالما بدون مبرّر ، بل التحقيق يثبت أنّ كلّ حرب من الحروب أو فتح من تلك الفتوحات كان لسبب مبرّر للقتال ، من قبيل قتل دعاة رسول الله (ص) حيث كانوا يذهبون لنشر الدعوة الاسلامية في بعض البلدان فيتعرضون للقتل ، أو من قبيل اضطهاد طغاة تلك البلدان المسلمين في تلك البلدان . هذا بالنسبة الى المجتمعات الكافرة غير المسالمة. .
وأما المجتمعات الكافرة المسالمة التي لم تعلن الحرب على المسلمين ولا على الدولة الاسلامية ولا على دعاة الاسلام ولم تشكل خطرا على الاسلام والمسلمين ، أولئك الذين لم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا على إخراجكم ولم يقاتلوكم في الدين، فمثل هذا الصنف الكافر المسالم لم يثبت انه (ص) شنّ عليهم الحرب مع الالتفات الى السمة الرئيسة لحروب النبي الاعظم ص .
كانت حروبا دفاعية يتصدى فيها الجيش الاسلامي للكفار المعتدين كما حصل في احد والخندق وغيرها .

ولابد من التذكير ان مسألة جهاد الكافرين ابتداء تهدف فيما تهدف اليه الى رفع الظلم والتظاهر الذي يرتكبه الطغاة أمام حرية الإنسان في اختيار فكر معين أو عقيدة معينة أو دين معين فيقوم النبي أو الإمام المعصوم بازالة هذا المانع فقط ليوفر الظرف المناسب لكل الناس في اختيار الدين الذي يقتنع به عن دليل وبرهان، حتى لو اختار الكفر بالله تعالى وبالإسلام وبالأديان السماوية فإنه لايؤاخذ بذلك بشرط أن لا يكون محارباً أو متسلطاً على بلد ما بحيث يمنع الناس عن الدخول في الإسلام، كفرعون وأهل مكة وما إلى ذلك من امبراطوريات الفرس والروم، فهذا هو الجهاد الابتدائي في الإسلام، لأنّه لا إكراه في الدين، وهذا واضح من خلال تصفح التاريخ الإسلامي وفعل رسول الله (ص) في فتح مكة فإنّه لم يجبر أحداً على الدخول في الإسلام بعد فتحها، بل أصبح يتألفهم بعد أن ان قال لهم اذهبوا فانتم الطلقاء ولااجل هذا يذكر بعض المؤلفين: أن محمد ( ص ) مع انه استولى على أكثر من مليون ميل مربع مما يعادل كل أوروبا باستثناء روسيا، ومع أنه كان يسكن هذه المنطقة ملايين من البشر، لم يقتل في كل حروبه- من طرف المسلمين- إلاّ مائة وخمسون مسلما ويضيف ان هذا العدد يعادل: قتيلا واحدا في كل شهر تقريبا!!!
ويزيد أحد الكتاب أن جميع القتلى مـن الطرفين ( المسلمين والمشركين ) لم يتجاوز ألفا وبضعة أشخاص في كل الحروب التي خاضها الرســول ( ص ) والتي كانت أكثر من ثمانين حرب!!

.
الارتداد والاكراه الديني
قد يتخذ البعض مسألة الارتداد وعدم جوازه بل وحكمه القاسي شاهدا على الاكراه الديني وعدم اباحة حرية المعتقد في الاسلام الا ان ذلك غير صحيح ضمن الملاحظات التالية:
الاولى:ان موقف الاسلام من الارتداد لاعلاقة له بالحرية الدينية او عدمها بدليل قبول الاسلام للاديان السماوية الاخرى ولو كان يريد الاكراه لما سمح لاي دين اخر بالتواجد.
الثانية: ان مسألة تجريم المرتد تارة تناقش من زاوية نظرية واخرى ومن زاوية عملية فعلى المستوى النظري يذهب غير واحد من فقهاء السنة الى هذا الحكم جاء ليعالج قضية انية مشخصة في عصر الرسالة عصر الثورة والكفاح ومن الخطأ ان يعمم الى غيره ويرون انه رد على واحدة من اساليب الحرب النفسية التي كان يقوم بها اعداء الاسلام بعد ان كانوا يشهرون دخولهم الاسلام ثم يعلنون خروجهم منه ولايخفى مالذلك من اثر سلبي على النفوس المقاومة خصوصا وان الساحة ساحة ثورة لاساحة دولة مستشهدين على ذلك بقوله تعالى:( وقالت طائفة من اهل الكتاب امنوا بالذي انزل على الذين امنوا وجه النهار واكفروا اخره لعلهم يرجعون), اما فقهاء الشيعة فيرون ان الامر يكمن في الزاوية العملية التطبقية فقد يكون للشيئ حكما معينا على الصعيد النظري التجريدي الا ان الواقع سيكون بالنهاية هو المحك مما يؤدي بالتالي الى تغيير نفس الحكم على الصعيد النظري والعملي وفيما يرتبط بمحور حديثنا لابد من ذكر تساؤلين رئيسين يتمحوران حول من بيده تطبيق الاجراء القانوني بحق المرتد بعد فرض ان نكون قد شخصنا حكمه القانوني على المستوى النظري؟؟ وهل يطبق مهما كانت الظروف والملابسات الموضوعية؟؟
ولااشكال هنا ان الظروف العملية بملابساتها الثقافية والمصلحية الاجتماعية حاكمة وستقلص مساحة التطبيق الى اضيق مساحة ممكنه الى حد الالغاء العملي في الاعم الغالب بعد فرض شروط كثيرة لهذا التطبيق اكثرها غير متوفر ترتبط بوجود دولة ومجتمع اسلامي وقيادة معصومة وان لايؤدي ذلك الى حدوث فوضى اجتماعية وتأثيرات سلبية نقطع بان الاسلام يتحفظ كثيرا عليها ومن هنا قال بعض المفكرين: ان الاسلام في قضية الحدود والعقوبات( يتشدد في النظرية ويتساهل في التطبيق) وربما لهذا السبب وغيره يكاد ينعدم وجود تطبيق فعلي لهذه العقوبة في التأريخ الشيعي والواقع الحالي

بين منتظري وسروش ومقولة الارتداد . بقلم ابن الرافدين 14


استوقفني مقال نقدي للمفكر الايراني عبد الكريم سروش1 وجه فيه سهام النقد لمقال اخر كتبه اية المنتظري2 عالج فيه الاخير الموقف من المرتد واسباب تجريمه في الفقه الاسلامي, ونحن وان كنا نعتقد كما اكدنا هذا في مقالات سابقة على ضرورة نقد الموروث الديني واعادة صياغته من جديد على اسس عقلانية بعد كون هذا الفكر في عمومه فكرا بشريا يحمل بين ثناياه المعطيات القبلية والاحكام المسبقه لشخصية ممتهنيه واهل اختصاصه الا ان ذلك لايعني التسليم التام بكل مؤاخذات الدكتور على الشيخ رغم انه قد يكون اصاب كبد الحقيقة في البعض منها.

الذي افهمه من خلال مراجعاتي لنتاجات المفكر3 سروش(لاسيما مقاله المذكور) انه يقيم منظومته الفكرية على اسس فكرية مسبقة يجعلها الفيصل المعياري والقسطاس المستقيم التي يزن بها المقولات كافة لاسيما ذات المسحة العملية منها من سياسية ودينية واجتماعية وغيرها وبالتالي يعطي الحقانية لما انسجم من هذه المقولات مع تلك المعايير متحفظا في الوقت ذاته على كل ماخالفها ولم يسر على منوالها,والمشكلة الرئيسة في هذا الاسقاط المعرفي انه يطرح كأحد ادوات الاصلاح الضرورية في معادلة سروش المعرفية خصوصا المتصل منها بالمفاهيم الدينية, وفي عقيدتي ان هذا لايتم مالم يتحقق احد امرين بل ثلاثة وكلها لم يحاول دكتور سروش تحقيقه على مابيدي من نتاجاته وهذه الامور هي:

الاول: الاثبات المعرفي من خلال منهج علمي يقيني جازم من خارج الدين حقانية المقولات ذات الاصول الموضوعية التي يتعاطى معها سروش تعاطي المسلمات من دون الحديث عن اصل تسالمها ويقينيتها فالرجل يحاول ان يجعل هذه المقولات مضمونة الحقانية حاكمة على كل ماسواها من دون ان يثبت في المقام الاول صلاحيتها لهذه الحاكمية عبر منهج علمي يقيني تنقاد له النفس وتسلم بنتائجه فنحن عندما نتحدث مثلا عن مقولة حقوق الانسان ونجعلها معيارا لكل ماعداها لابد ان نسجل في الرتبة السابقة جزمية هذه المقولة واستطالتها على كل ماسواها وعدم رفع اليد عنها باي حال من الاحوال وهذا امر اعترف اني لم اجده فيما بين يدي من نتاجات سروش ان لم اكن قد وجدت ضده!!

الثاني: ان ينّظر الدكتور سروش لهذه المقولات من داخل الدين نفسه مستحصلا الشواهد والمؤيدات الدينية التي تؤدي بالنهاية الى اضفاء المشروعية الفكرية(دينيّا) على تلك المقولات وان لايكتفي باثارة المشكلات واللوازم التي يتصور وفقا لمنظومته المعرفية التي لم تثبت بعد انها(اللوازم)باطلة وغير منطقية.

الثالث:التأصيل والتفريع اي اننا اذا وصلنا الى نتيجتين متناقضتين يقينيتين واحدة من داخل الدين واخرى من خارجه فأيهما يكون الاصل الذي يحتفظ به والاخر الفرع الذي يؤول او يسقط نهائيا في ضوء ذاك الاصل؟؟ وبكلمة اخرى هل الاصل عند التعارض بين خارج الدين وداخله لليقين من داخل الدين ام لليقين من خارجه؟؟.وان كان قد يقال ان المتتبع لكتابات الدكتور سروش يجد انه يعطي الحاكمية لما هو خارج الدين على ماهو داخله بعد كونه يتعامل مع الخارج معاملة الاصل الموضوعي المفروغ من صحته ولكن يبقى هذا بدون ضابطة علمية واساس معرفي واضح4



وانا اذ اسجل هذه الامور اؤكد اهميتها بدرجة قصوى اذ من دونها سيبقى البناء النظري للمفكر سروش والمرتبط بنقد النتاج الشرعي لايعتد به لاسيما من المتدينين الذين سيضعونه تحت عنوان تحكيم الذوق اوالاستحسان الفكري واشباهها من عنوانات قاتلة, ونحن لا نتأمل كثيرا من مفكر ديني ان يرفع يده عن كثير من مفاهيمه ومقولاته لالشي الا لانها قد تعارض حقوق الانسان او تنافي احترام الانسان بما هو انسان او لاتعترف بحقوقه الذاتية مع ان كل هذه المقولات وسواها لم تثبت بعد(بحثيا) ثبوتا جزميا لا من داخل الدين ولا من خارجه.

والان اذا رجعنا الى مضامين مناقشة الدكتور سروش لاية الله المنتظري في قضيتنا وانا هنا اتحدث عن تجريم المرتد فسنجد ان مجمل مناقشاته تتمحور حول نقطتين اساسيتين:الاولى ترتبط بهدم محور ارتكاز مبنى الشيخ اعني بذلك حجية خبر الثقة5 الذي يستدل عن طريقه باحاديث احاد لاتفيد اليقين كما يفترض الدكتور والثانية ترتبط بحاكمية اللوازم الباطلة على اصل هذه الفتوى بعد معارضتها لحقوق الانسان وابتعادها عن فهم حقيقة الانسان نفسه وتعاطيه مع المفاهيم الفكرية فضلا عن ابتناء هذه الفتوى (في بعض الوجوه)على التمسك ببعض الحقوق ونفي الاخرى مع ان هذه الحقوق جميعها في عرض واحد وترجيح احدهما على الاخرى ترجيح بلامرجح كما ان صاحب الفتوى قد استعان بأمور وتمثيلات قد لايقره عليها الفقهاء ولايرتضيه مسلكهم.6

في صدد النقطة الاولى يرى الدكتور ان اهم دليل اتبعه الاصوليون في القول بحجية خبر الثقة الذي يمهد الطريق للعمل باخبار الاحاد والتي لاتفيد اليقين عادة هو التمسك بسيرة العقلاء7 وهذا واحد من ادلة متعددة تذكر بل لعله اهم دليل عندهم وعليه جعله الدكتور محلا لأخذه ورده وهو في ذلك يستعين بمقولة حقوق الانسان لكبح جماح التوسعة الفقهية المترتبة على القول بحجية خبر الثقة بعد ان رأينا الفقهاء يستندون اليها في مختلف الابواب الفقهية مهما كانت خطيرة ومهمة ومن هنا يقول الدكتور صحيح ان خبر الثقة حجة في نفسه وصحيح ان سيرة العقلاء انعقدت على العمل به لكن اذا تقاطع الخبر مع حقوق الانسان فان هذه السيرة نفسها توجب الاحتياط ولزوم السعي لتحصيل ادلة اقوى وقرائن أكثر.8

والذي أراه ان هذه المناقشة من الدكتور غير موفقه ربما لانها لامست موضوعا تخصصيا بحتا كان موردا لتلاقح افكار المئات من الفقهاء والاصوليين وبالتالي فمالم نتحرك في طريق التخصص وصولا الى هضم المطالب فسنكون غرباء عن هذه الاجواء البحثية ونحن اذ نقول هذا الكلام يمكننا ان نعضده بشواهد نقاشية يمكن ان ترد على مافاده المفكر سروش:

الاول:ان دليل سيرة العقاء ليس دليلا مستقلا بحد ذاته وانما مبني على امضاء الشارع المقدس وجعله وهو لولا هذا الامضاء وذاك الجعل لن يكون ذا قيمة اصلا ومن المعلوم ان امضاء ظاهرة ما يتطلب تحققها زمن النص ونحن نعرف ان مقولة حقوق الانسان متأخرة بزمن طويل جدا عن عصر النص وبالتالي تحتاج الى امضاء وهو مفقود كما هو واضح.

اللهم الا اذا تبرعنا للدكتور بان نقول : صحيح ان مقولة حقوق الانسان حادثة ومتأخرة عن زمن النص وعصره بيد ان الحادث منها هو هذه التطبيقات الحالية التي مرت بمراحل زمنية طويلة حتى وصلت الى ماوصلت اليه ونحن لانتحدث عن هذه التطبيقات والتشريعات بصورتها الحالية وثوبها الجديد وانما نتحدث عن العنوان الجامع الذي كان موجودا على طول الخط وهو حقوق الانسان التي نعتقد انها وجدت مذ وجود الانسان على سطح هذه المعمورة حتى وان كان وجودها وجودا ساذجا وبسيطا لارتباطه بظروف عقلية وثقافية وغيرها وحينئذ قد يقال بانعقاد سيرة العقلاء على الاحتياط وتجميع القرائن فيما يتعلق بحقوق الانسان ومعلوم ان هذه الحقوق متجددة ومتطورة الا ان هذا التجدد وذاك التطور لن يؤثر على اصل الاستدلال بالسيرة لاننا نعتقد(كما اعتقد الفقهاء في موضوعات مشابهة) ان الامضاء جاء للنكتة لا للمصاديق المادية والمعنوية وبكلمة اخرى: ان العقلاء جرت سيرتهم على الاحتياط في كل مايخص حقوق الناس لا لشيئ الا لانها حقوقهم سواء كانت ذاتية او مكتسبة وقد امضى الشارع هذه السيرة ومعلوم ان هذا الامضاء امضاء حتى للنكتة التي من اجلها امتنعوا عن تناول الحقوق وهذه ضابطة عامة ومتجددة في نفس الوقت.
هكذا يمكن ان نقول في تبرعنا لتوجية كلام الدكتور سروش رغم انه قد يسجل هنا تحفظ تخصصي بان يقال: ان ماذكرتموه تام لولم يثبت ردع من الشارع عن هذه السيرة في خصوص الدائرة التي تتكلمون عنها وقد وردت عشرات الاخبار التي تؤسس وبألسنة متعددة للعمل بالظنون المعتبرة حتى في موارد حقوق الانسان منها لسان تأسيسي ومنها لسان يحكي عمل القادة المعصومين _ع_ فضلا عن انعقاد سيرة المتشرعة(وهي اخص من سيرة العقلاء) لاسيما في القضايا الحقوقية والجزائية على العمل بما ذكرنا وهو امر غير قابل للانكار,مع الاشارة هنا الى ان ان دعوى امضاء النكتة دون اثباتها خرط القتاد بعد عدم توفر الضوابط الشرعية المؤيدة لذلك.
الثاني:اننا قد نسلم بما ذكره الدكتور سروش من تحفظ العقلاء واحتياطهم في كل مايتصل بحقوق الانسان بيد ان هذا لايعني مطلقا عدم العمل بالظنون المتولدة من اخبار الاحاد وضرورة تحصيل اليقين بعد ان راينا القوانيين الاجرائية والجزائية ومنذ فجر التأريخ الى يوم الناس هذا لاسيما في البلدان التي تنظر وتطبق حقوق الانسان في اجلى مظاهرها اقول رأيناها تكتفي في سلب حقوق الانسان(الى حد اعدامه) بظنون قد تكون اقل بكثير مما تولده اخبار الثقات ولابد من التذكير هنا انهم في هذا الصدد يرجحون بعض الحقوق على بعضها رغم اجتماعها في ان واحد لكن تراهم يضربون كل هذه الحقوق عرض الجدار حفظا على حق حفظ المجتمع المرجح على كل حق وهذا يصلح ان يكون ردا على ماافاده الدكتور سروش من ان حفظ حق العقيده ليس الحق الوحيد وان هناك حقوقا اخرى الى جواره وترجيح احدها على الاخر ترجيح بلامرجح.9
الثالث: اذا تكلمنا بخصوصية اكثر وقصرنا الموضوع على قضية الارتداد تحديدا فستكون القضية سالبة باانتفاء الموضوع كما يقولون بعد كون اخبار تجريم المرتد اخبارا متواترة خارجة عن دائرة الظنون ومعطيات اخبار الاحاد فلن يكون للحديث عن حجية خبر الثقة حينئذ اي موضوع.


في صدد النقطة الثانية التي تتمحور حول روح الفتوى واثارها السلبية فيرى الدكتور ان اية الله منتظري لم يكن موفقا في تحديد اسسها الشرعية لانه قد استعان بتمثيلات وتشبيهات وحتى ضوابط كلها يمكن المناقشة فيها وردها جملة وتفصيلا ويمكننا ادراج هذه الضوابط وتلك التشبيهات ضمن عنوانات متعددة:
الاول: الاستدلال بالاستعانة بتمثيل المرتد بالغدة السرطانية .10
الثاني:الاستدلال بمنطق المؤامرة.11
الثالث:الاستدلال بمنطق الدفاع عن الحق.12
الرابع:الاستدلال بمنطق الدفاع عن العقيدة.13
الخامس:ان حكم قتل المرتد حكم سياسي.14

هكذا قد عنون الدكتور الوجوه التي استدل بها الشيخ او قريبا من ذلك ثم حاول رد هذه الوجوه كلها باثارات قد لاتخلو من مناقشة بل مناقشات لغرابة الكثير منها ويتضح ذلك بعد ان نطرح تساؤلا اساسيا هنا:وهو هل حقا ان الشيخ المنتظري يريد ان يجعل هذا الوجوه التي ذكرها الدكتور سروش اساسا شرعيا لحكمه بتجريم المرتد وقتله؟؟؟ وان الحكم الشرعي هذا يدور مدار تلك الاسس وجودا وعدما؟؟
اعتقد ان من له ادنى المامة في الفقه واصول الاستدلال سوف يجيب جازما بالنفي بعد كونها امورا استحسانية ذوقية لايخلو الكثير منها من خطابية قد تصل حد الانشاء فضلا عن مخالفتها لاصول الاسنباط الشيعي ومنابعه البحثية واعتقد ان هذا شيئ ربما يستوحى من كلمات سروش نفسه الذي رد على منتظري فيما رد عليه ان الفقهاء يوجبون قتل المرتد بلا اي عنوان زائد على ارتداده15 رغم ان الشيخ قد يجيب عن هذا قائلا(ان كان يرى ان ماذكره من اسس تصلح ان تكون علة للحكم) ان هذا رأيي الفقهي وانا لااتعبد بما يقوله الاخرون.
وقد تسال اذا كان الامر كما ذكرت فما معنى تضمينها مقال الشيخ منتظري؟؟ ولماذا ذكرها اساسا؟؟
وفي صدد الاجابة نقول:
اولا- ان هذا راجع الى التفرقة في الفقه بين مصطلح الحكمة والعلة , ويفرقون بينهما في كون الحكم يدور مدار العلة وجودا وعدما بينما الامر ليس كذلك في الحكمة التي قد توجد وباعداد كثيرة في مورد من الموارد الا انه لن يكون مشمولا بحكم معين وهذا الذي كان على الدكتور سروش سؤاله من الشيخ المنتظري واغلاق الباب من اساسه انك عندما تذكر هذه الوجوه وتلك الاسس فهل هي حكم(جمع)ام علل لاافتائك بتجريم المرتد وقتله؟؟فان كانت حكما فهي ليست اساسا شرعيا ولافقهيا عند الشيعة للحكم بذلك وان كانت عللا فما هي ادلتها ومنابعها الفقهية التخصصية فضلا عن ايراد ماسجله من ملاحظات هنا فهي نافعة على اي حال.
ثانيا- ان هذا النوع من التوجيه الوارد في كلام الشيخ منتظري توجيه رائج ومتبع في كلمات غير واحد من المفكرين الذين يريدون باسلوبهم هذا ازالة استغراب المتلقي او عقلنة افكارهم فيصرون على ان تلك الافكار وهذه الطروحات ليست بدعا في بابها وليس تعليلها تعليلا غيبيا لايمكن ان يدرك كنهه او يتلمس واقعه لانه يبتني على اسس عقلائية معاشة من قبيل مواقف العقلاء تجاه المؤامرات والمتأمرين والدفاع عن الحق والعقيدة وغير هذا رغم ان هذه التعليلات لن تكون في النهاية(علة)للحكم الشرعي كما بيننا الا انها تنفع في ازالة الاستغراب وعقلنة الفكرة واخراجها من اطارها الغيبي المجهول الى عالمنا الحسي المعاش.

وهذا الامر بالضبط يجري في مانقله الدكتور عن الشيخ من ان هذا الحكم هو(نظير تحجيم عمل بعض الفئات المناوئة لئلا تسري عقائدهم واخلاقهم السيئة الى مفاصل المجتمع الاسلامي وهذا الامر اي تحجيم عمل القوى المعادية هو من الامور الرائجة في سياسية عالم اليوم)16 لكن الدكتور سروش اعتبر هذا الكلام دليل ابتناء هذا الحكم الفقهي على جنبة سياسية وعمم المقولة ليناقش العلاقة بين الدين والسياسة!!!17
رغم ان الشيخ المنتظري كان في صدد ماذكرنا من نفي كون الاسلام بدعا من جميع النظم الاخرى التي تحاول تحجيم اعدائها وابعاد خطرها عن مجتمعها ,ولو اصر الدكتور سروش على كلامه من كون هذه المقولة تعكس وبالضرورة الصبغة السياسية للفتوى فيمكننا ان نوجه كلام الشيخ منتظري توجيها اخرا رغم انه خلاف ظاهره وهذا التوجيه له اسسه الفقهية والشرعية في الفكر الاسلامي الشيعي وان كان متاخرالظهور وتحديدا على يد المفكر الشهيد السيد محمد باقر الصدر مع وجود بذوره الاولى في روايات اهل البيت عليهم السلام 18.ويقوم هذا التوجيه على التفريق بين الاحكام الصادر من النبي ص بين كونه نبيا مرسلا او قائدا سياسيا اذ تمثل الحالة الاولى حالة ثبات الاحكام وعدم تغيرها الا في حالات استثنائية يعبر عنها بالعناوين الثانوية بينما تمثل الحالة الثانية حالة التبدل والتغير اخذا للمصلحة السياسية والاجتماعية بنظر الاعتبار على ان تكون صلاحيات ذلك بيد القائد السياسي سواء كان اماما معصوما او فقيها نائبا في عصر الغيبة وهذا مانجد له الكثير مما يصلح ان يكون اساسا شرعيا في التراث الفقهي الامامي ,ومن هنا يصح كلام الدكتور سروش ان لو كان هذا الحكم حكما سياسيا فيجب الالتزام بأثاره ولوازمه التي ابرزها كونه عرضة للتبدل والتغير وفقا للظروف والملابسات الاجتماعية والسياسية ولكن يبقى الكلام في مايستفاد من الروايات التي هي عمدة الادلة في كلام الشيخ المنتظري وكيف يوجه اطلاقها او عمومها الظاهر في كون هذا الحكم ليس حكما سياسيا مؤقتا قابلا للاسقاط رأسا تبعا للواقع وملابساته!19

يبقى الكلام فيما افاده الدكتور حول الانسان الفطري والتأريخي20 وكيف ان الفقهاء خلطوا احدهما بالاخر بعد ان تعاطوا مع الانسان كانسان فطري له حاجات ثابتة وكانها لوازم لاتنفك عن ذاته بحيث الغوا فكرة الملابسات الثقافية والتربوية والبيئية وسواها والتي لها دور بارز في صياغة الانسان وتحديد معالم شخصيته وهذا الكلام حق وتام الى حد كبير على المستوى العملي رغم ايماننا بان المفكرين الاسلاميين قد ميزوا بين الامرين ولكن تميزا نظريا فقط لم يلق بظلاله وبالمستوى المطلوب على الحالة الاستنباطية بل اصبحت الاحكام الثابتة المستطيلة على الواقع وافرازاته هي العلامة الفارقة في مسيرة الفقه بعد ان أوطرت باطار القضية الحقييقة بحسب اصطلاحهم رغم انهم وفي اطار التأصيل النظري يرون21: ان الانسان والمركب الاجتماعي له احتياجات ثابتة لاتتغير ابدا والى جوارها احتياجات متغيرة تتفاوت تبعا للعصور والامكنة والازمان وقد جاءت الشريعة لتمثل الجزء الثابت الذي لايتغير من الاحكام الاسلامية وهذا الجزء يتعامل مع الجزء الثابت في الوجود الانساني والاجتماعي اما الجزء المتغير من الوجود الانساني والاجتماعي فيقابله في الاسلام الجزء المتغير القائم على اساس مجموعة من الاحكام المتغيرة الا ان كل ذلك بقى في مجمله ترفا فكريا او تأصيلا نظريا لم ياخذ طريقه الى الواقع في احايين كثيرة,نعم قد يكون المفكر الصدر والسيد الخميني ساهما مساهمة هامة في تحريك هذا الواقع واعطاء الفقه ادوات مرنة الى حد كبير الاول عبر التفكيك بين الاحكام الشرعية والسياسية في تعاليم المعصوميين ومااصطلح عليه بمنطقة الفراغ التشريعي والثاني عبر مفهوم المصلحة الذي ذاع صيته في التجربة الايرانية الاسلامية الا ان كل ذلك يبقى في اغلبه نوعا من الحلول الترقيعية وغير النافعة كما يقول الدكتور سروش22, وربما يعود هذا الى حالة البعد عن الواقع المعاش بحكم حالة الوضع الاستثنائي الذي مرت به الشيعة و عاشه فقهاؤها على طول الخط ومن المعلوم ان التجربة العملية وافرازات الواقع تفتح افاقا جديدة للبحث وتطرح مشكلات كثيرة تتطلب تأصيلات علمية حادثة ولعله لهذا وغيره غاب فقه الدولة عن الفكر الشيعي الامامي الى وقت متأخر وشاع بدلا عنه فقه الفرد قبل ان يعيشوا تجربتهم الاخيرة رغم اعتقادنا ان الخلط بين الفقهين مازال موجودا لاسيما في الفقه القديم المنتشر حاليا في الحوزات العلمية.

الهوامش
1-الفقه في الميزان مقال منشور ضمن كتاب الدين العلماني للدكتور عبد الكريم سروش ص91ومابعدها
2-لم يتضمن الكتاب اصل مقال الشيخ المنتظري 
3-الدين العلماني والصراطات المستقيمه وغيرها
4-رغم ان محاور الدكتور سأله في الصراطات المستقيمة ص92 نفس هذه التساؤلات او قريبا منها الا ان الدكتور اجاب بما يشبه المدعيات
5-المقال نفسه ص114
6-ص93ومابعدها
7-ص114
8-ص114-115
9-ص98
10-ص93
11-ص96
12-ص97
13-ص106
14-ص109
15-ص96
16-ص109
17-ص109ومابعدها.
18-السيد محمد باقر الصدر الاسلام يقود الحياة ص50 ومابعدها.
19-وسائل الشيعة ج18 كتاب الحدود والتعزيرات ابواب حد المرتد ص545 ومابعدها 
20-المقال ص115
21-هذا الكلام يذكرونه عادة في معالجة شبهة الثابت والمتغير في الاسلام
22-المقال ص103

الدين والاخلاق جدل الثابت والمتغير . ابن الرافيدن 14


يرى اكثر من فيلسوف وكاتب غربي ان الحالة البدوية كانت المحطة الاولى للانسان على وجه هذه البسيطة وان الوحشية والانانية والفردية كانت من ابرز ملامح هذه الفترة ويرون ان الانسان كان يعيش الفردية من دون التقيد بالاعراف والتقاليد الاجتماعية وبكلمة اخرى ان الانسان كان يعيش بصورة وحشية وغير متمدنة قبل ان يتجاوز مرحلة البداوة ليعبر الى التمدن والحياة المدنية ليستبدل بالتالي صفاته وحالاته الى اضدادها فينتقل من حالة التوحش الى حالة التمدن ومن الحالة الانفرادية الى حالة قبول النظم والتأدب بالاداب والاعراف الاجتماعية.
ويتفق التفسير الديني لحركة الانسان وبداية تكوينة المجتمعات البشريه الى حد ما مع هذا التفسير غاية الامر انه يختلف معه في تعميم مفهوم الوحشية التي كان الانسان يعيشها للجوانب المادية والمعنوية فنحن قد نتفهم كون الوسائل الاولى التي كان يتبعها الانسان للتعامل مع الطبيعة وموجوداتها كانت بدائية تماما الى الحد التي قد توصف بانها وحشية بهذا اللحاظ بيد اننا لانوافق على ان هذا الوصف ينجر حتى على الحالة المعنوية والاخلاقية باعتبار ان الانسان لم يخل في مرحلة من مراحلة سيرته الدنيوية من هاد سواء كان هذا الهادي من مقوماته الذاتية المرتبطة بالفطرة والعقل او خارجا عن مقومات الذاتية كما في الانبياء والرسل.
لقد مر الانسان بنمطين من الحياة كان عنصر الانا والحالة الفردية هي الغالبة على النمط الاول بينما كان النزوع نحو الاجتماع وتأكيد الاواصر الاجتماعية هو الطاغي على الحالة الثانية وفي كلا النمطين علينا ان نتسائل عن طبيعة الاخلاق التي كان الانسان يتحلى بها؟؟ وعن مصدرها الذي اليه تستند؟؟
يعود النمط الاول من الحياة الى الحالة الاولى للانسان قبل تكوين المجتمعات وبالتالي ظهور الاديان ورسم التشريعات الالهية والوضعية وتؤكد المستندات الدينية ان الحاكم الاساسي للانسان والموجه الرئيسي في هذه المرحلة هما امران رئيسان يتحدد اولهما بما يعرف في الثقافة الاسلامية بالفطرة التي فطر الله الانسان عليها بعد ان ركب في نفسه القدرة على تشخيص الخير من الشر والصلاح من الفساد وذلك بالهام فطري (ونفس وماسواها فالهما فجورها وتقواها), وقد قيل ان الامور المرتبطة بالفطرة وبحكم كونها من صميم الانسان وذاتياته( فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله) اقول: قيل انها ليست بحاجة الى تعليم وتعلم وهكذا غير قابلة للتغيير والتبدل فضلا عن توفرها في كل افراد النوع الانساني بيد انها قابلة للشدة والضعف تبعا للمؤثرات البيئية والثقافية والتربوي وغيرها واذا عرفنا ان الاحكام الفطرية غير قابلة للانسلاخ من الذات الانسانية لانها من صميم خلق الانسان واذا عرفنا ايضا ان كل المؤثرات التي تؤدي الى ٌٍٍُِِاضعاف هذه الاحكام من ملابسات ذكرناها قبل قليل انما يمكن فرضها في حال تكوين المجتمعات البشرية امكننا ان نعرف ان الفطرة هي الموجه الاساسي للفرد الذي لم ينتظم بعد في مجتمع من المجتمعات فيؤثر ويتأثر سلبا وايجابا.
اما ثانيهما فهو العقل وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قال: أول ما خلق الله العقل ." و أن الله عز وجل لما خلق العقل قال له أقبل فأقبل ، ثم قال له أدبر فأدبر ، فقال تعالى : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أكرم علي منك ، بك أثيب وبك أعاقب ، وبك آخذ وبك أعطي

ويرى كثير من الفلاسفة ان العقل قادر على تمييز الاشياء الحسنة من السيئة بعد إن نعرف ان الأفعال الخلقية هي الأفعال التي يكون الحسن ذاتياً لها وفي قبالها الأفعال غير الخلقية وهي ما يكون القبح فيها ذاتياً، ومن هنا اعتقد الكثير أن عقل الإنسان يدرك الحسن الذاتي للأفعال الخلقية والقبح الذاتي للأفعال غير الخلقية، فكانوا يقولون مثلاً: إن العقل لدى كل شخص يدرك أن الصدق حسن في ذاته وجميل، وأن الكذب قبيح بذاته, وقد ورد ان الفيلسوف الهولندي جروتيوس قال ما معناه: إن المبادئ الأخلاقية طبيعية وحتمية بذاتها، والله سبحانه يأمر بها لأنها كذلك، ولا يمكن أن يجعل الله ما هو شر بذاته ليس شراً تماماً كما لا يمكن أن يجعل ضعف الاثنين ثلاثاً أو خمساً, وعلى هذا الاساس انكرو الفكرة السائدة منذ عهد السفسطائيين من ان القوانين الإنسانية نسبية تختلف باختلاف الشعوب فقد بين منتسكيو في كتابه روح القوانين أن الظواهر الإنسانية تشريعية كانت أم سياسية أم اقتصادية تخضع لقوانين وقواعد ثابتة تقتضيها طبائع الأشياء.

والجدير بالذكر ان كثيرا من الفلاسفة يذهبون مذهبا يقترب من تفسير الدين لظهور الاخلاق قبل مرحلة المجتمع وتحديدا دخالة عامل الفطرة في ذلك فهم يرون ان الأخلاق عبارةٌ عن سلسلة من الاُمور الوجدانيّة غير البرهانيّة، أي أنّها تُدرك بدون حاجة إلى منطق و استدلال، فمثلاً الإنسان يدرك أنّ العدل حسنٌ، و الظّلم قبيحٌ، و يُشخّص أنّ الإيثار و الشّجاعة أمران جيّدان، الأنانيّة و الظّلم و البخل اُمورٌ قبيحةٌ، و لا يحتاج في إدراك هذا المعنى، إلى إستدلال عقلي من خلال دراسة تأثير هذه الأفعال و السّلوكيات في واقع الفرد والمجتمع.

وقد كان(كانت) يرى ان وجدان الانسان يملي عليه سلسلة من التكاليف الاخلاقية وان الانسان يتحرك لامتثال هذه الامور الاخلاقية تبعا للتكليف الذي يراه نابعا من الوجدان.



الانسان والمجتمع

تتحد جميع النظريات التي حاولت البحث في اسباب ظهور المجتمع البشري على نقطة محورية واحدة وهي ان الانسان لايمكن ان يعيش حالة الانفراد والعزلة بل هو مضطر للتخلي عن انعزاليته وفرديته والاتجاه صوب بناء المجتمعات البشرية رغم ان هذه النظريات تختلف فيما بينها في الدافع الذي يمكن اين يكون سببا اساسيا في تعليل اقدام الانسان على العيش مع ابناء جنسه الا ان الشيئ المعلوم بالتجربة هو ان الانسان موجود ساع وبقوة نحو التكامل سواء كان في بعده المادي ام المعنوي وان لديه ميزة اساسية عن بقية الموجودات تكمن في سعة حاجاته وتشعبها ويكفينا نظرة واحدة مقارنة بين حاجاتنا وحاجات غيرنا من الموجودات الاخرى للوصول الى هذه النتيجة الواضحة والنقطة الجديرة بالاشارة هي ان معظم مايحتاجه الانسان غير متوفر في الطبيعة بصورة جاهزة وانما يحتاج الى ان يجري تغيرات اساسية للاستفادة من المادة الموجودة في الطبيعة بصورة خام ومادة اولية في الاعم الاغلب .
لقد وجد الانسان سواء بحسابات عقلية مبسطة او بالتجربة انه لايتكمن من توفير جميع احتياجاته بصورة فردية وانه لابد له من الالتئام مع غيره من افراد البشر كي يستطيع ان يلبي متطلباته ومن هنا لابد من توزيع الاختصاصات فلابد ان يكون احد الافراد نجارا والاخر خبازا والثالث بناء والرابع طبيبا والخامس معلما والسادس خياطا وهكذا وهذه ضرورة املتها عدم قدرة الانسان وحده على ممارسة هذه الامور والقيام بهذه الافعال بصورة منفرده لذلك اضطر ان يترك حالته الفردية وينظم الى الاخرين لاشباع مايحتاجه وتلبية متطلباته لذا ورد عن ارسطو قوله في هذا الصدد: ((وأي شخص لا يحتاج إلى غيره من الناس فهو إما إله وأما وحش)). .
النقطة التي ينبغي ألا تفوتنا ونحن في صدد الحديث عن الدوافع الانسانية نحو الاجتماع هو ان الانسان يرغب في توظيف الاشياء لخدمته ولمنفعته ويرغب في بسط سيطرته على الاخرين وتحكيم قدرته لتسخيرهم بدرجة انه لايعرف حدا معينا لهذه الرغبة الجامحة , واللافت ان جميع افراد البشر يحملون هذه الرغبة ومن هنا صارت هذه الرغبة دافعا اساسيا لافراد الانسان للاجتماع في مجتمع واحد كي يضمنوا تلبية احتياجاتهم عن طريق استخدام بعضهم البعض الاخر غاية الامر انهم احتاجوا الى مقيدات ومحددات تلعب دورا اساسيا في كبح جماح رغبة استخدام الاخرين وتسخيرهم فكان الوازع الداخلي المتمثل بالدين والاخلاق والوازع الخارجي المتمثل بالقانون والحكومة ابرز المحددات التي حالت دون اسراف الانسان في تسخير ابناء جنسه وخدمته.

من خلال هذا السرد الموجز لمفردة ظهور المجتمع البشري والذي حاولنا ان ندك فيه اكثر من نظرية عالجت اسباب صيرورة المجتمع وخروجه من العدم الى الوجود نحاول ان نسجل هنا اكثر من ملاحظة:

الملاحظة الاولى: ان الاصل الاولي للانسان يقتضي ان يكون ذا طبع فردي انعزالي وان الاجتماع مع الاخرين عارض وطارئ عليه اي انه اجتماعي بحسب طبعه الثانوي.

الملاحظة الثانية: ان ظهور المجتمع الى النور يؤدي الى نشوء جملة من المفاهيم والقيم كالرئاسة والمرؤسية والملكية والزوجية وغيرها من مقررات اجتماعية جاءت لتنظيم حياة الفرد الاجتماعية بحيث لولا حالة اجتماع الانسان مع ابناء جنسه لما كان لهذه المفاهيم وتلك القيم عين ولاأثر.

الملاحظة الثالثة: ظهور الاخلاق الاجتماعية فان هذا الاجتماع يفرض نوعا جديدا من الاخلاق لم يكن معروفا قبل وجود المجتمع وربما غالى البعض فاعتقد ان منشأ ظهور الاخلاق كلها انما هو حالة الاجتماع البشري بنحو ان ليس وراء المجتمع للاخلاق اسم ولارسم, وهذا ماسنشير اليه في عنوان مستقل.

الملاحظة الرابعة: ان ابرز ملامح الحالة الاجتماعية هو ظهور التناقضات والصدامات الحتمية في المجتمع البشري بعد ان قلنا ان حاجات الانسان واسعة جدا وهو تبعا لذلك يمتلك طموحا قويا ورغبة جامحة في تسخير الاخرين والاستفاده منهم من اجل تلبية احتياجاته وان مايريده الانسان من الاخر من ابناء جنسه موجود عند الجميع بنفس القوة والكيفية فاذا التفتنا الى محدودية الموارد الطبيعية التي يمكن ان ترفع احتياج الكل سهل علينا ان نفهم العامل الاساسي وراء ظهور الاختلاف والتناقض حد ظهور الحروب والقتتال لذا احتاج الانسان الى رفع هذا الاختلاف والى تحديد الطموح البشري في الاستغلال فكان ان ظهر القانون والحكومات فضلا عن الاخلاق وهدف الجميع دفع الانسان للتنازل عن بعض حقوقه للاخرين من اجل تلبية البعض الاخر من هذه الحقوق من قبل الاخرين.

الاخلاق الفردية والاجتماعية
يعتقد البعض ان الاخلاق على مستوى الاسس والمنطلقات انما تتولد مع المجتمع وتدور مداره وجودا وعدما وبالتالي فان اي اخلاق قبل مرحلة تكوين المجتمع لااثر لها وقالوا ان الانسان لو عاش مستقلا عن ابناء جنسه فلن يكون هناك اي مفهوم للاخلاق وهم اذ يطرحون هذا التصور عن العلاقة بين المجتمع والاخلاق يضعون نصب اعينهم جملة من المفاهيم والقيم الاخلاقية التي لايمكن تصورها مع فرض عدم وجود مجتمع او علاقات اجتماعية بين افراده لان الحسد والتواضع والكبر وحسن الظن والعدالة والجور والعفة والكرم كلها من المسائل التي تكون وليدة المجتمع وثمرة من ثمار تعامل الناس مع بعضهم البعض وعليه يجب ان تكون متقومة بوجود الحالة الاجتماعية.
والصحيح ان هذا التصور ليس تصورا مطلقا ودائميا فلااحد ينكر ان كثيرا من الفضائل والرذاثل الاخلاقية مرتبطة ارتباطا مباشرة بالحياة الاجتماعية بدرجة اننا لايمكن ان نتصور وجودها لولا هذه الحياة الا ان هذا لايعني عدم وجود اخلاق وقيم ذات مسحة فردية تصدق على الانسان سواء عاش حالة العزلة والانفراد ام حالة التواصل والاجتماع لان مفاهيم وقيما من امثال الصبر والجزع والشجاعة والخوف وغيرها من الصفات النفسانية وهكذا الغفلة والشعور تجاه الخالق الكريم والشكر والكفران لنعمه التي لاتحصى كلها امور يعيشها الانسان ويتحلى بها مع وجود المجتمع او عدم وجوده.

مايقدمه الدين للاخلاق
لكي نفهم الدور المحوري للدين في تفعيل القيم الاخلاقية لابد ان نقول اننا ذكرنا قبل قليل ان ظهور القوانين والشرائع انما هو وليد حالة الاختلاف والصدام بين ابناء البشر وان مهمة هذه القوانيين وتلك الشرائع يتحدد في دفع الانسان للتنازل عن بعض حقوقه للاخرين من اجل ان يضمن تلبية حقوقه الاخرى ولنا ان نتسائل الان عن الدافع الذي يمكن ان يكون محورا اساسيا في دفع الانسان نحو التنازل عن جملة من حقوقه للاخرين؟؟ لقد قلنا ان الانسان يسعى نحو التكامل المادي والمعنوي بقوة وهو بالتالي يريد استغلال كل شي موجود في الطبيعة من انسان وحيوان وجماد في سبيل هذه الغاية ويرى ان هذا حق طبيعي له ولامبرر للتنازل عنه باي حال من الاحوال ومن هنا فلماذا يتنازل اذن؟؟؟
لقد ذكرنا سابقا ان لابد للانسان من التنازل عن بعض حقوقه للاخرين كي يأخذ قبالها جملة من الحقوق وان الذي ينظم هذا هو القانون غير ان التساؤل الرئيسي يكمن في مدى قدرة القانون في دفع الانسان نحو هذا التنازل لاسيما وان مساحته تقتصر على الدائرة الظاهرية المحسوسة اولا ويمكن للانسان ان ينفذ منه بالف حيلة وحيلة ثانيا فضلا عن كون الانسان مجبرا على الخضوع اليه ثالثا؟؟
يرى (رسو) ان النظام في الحياة الاجتماعية انما هو نظام قهري يكره فيه الانسان على الخضوع لنمط معين من القيم والاعراف ولايمكن القول انه هو النظام الافضل للانسان,بينما يرى فرويد ان الانسان في طبيعته غير مؤدب وان لديه كثيرا من الرغبات المقيدة بقيود الاداب الدينية والاجتماعية وان هذه القيود وليدة حاجة الانسان للاجتماع مع الاخرين وانها قد تملي اشياء على خلاف حالة الانسان الاولى وحريته الفطرية.
من هنا يتضح ان السمة الاولية البارزة في الانسان هي الميل نحو التحلل من القيود والاعراف والمحددات القانونية التي يرى نفسه مكرها على الخضوع لها رغم انها تخالف حالته الطبيعية الاولى وعلى هذا الاساس يطرح التساؤل الاتي :اذا كانت هذه المقررات والقيم القانونية على خلاف طبع الانسان وانها محددة لحريتة الطبيعية فلماذا يرى الانسان نفسه ملزما بتطبيق مقرراتها في الحالة التي يمكن ان يفلت من تبعاتها ويشبع احتياجاته كلها دون ان يتنازل عن جزء ولو يسير من حقوقه؟؟؟؟
لقد ذكر القران الكريم ان مرحلة الاختلاف البشري والتناقض المصلحي هو الذي اوجب ارسال الرسل وانزال الكتب السماوية(كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) ومن هنا يفهم ان علاج هذا التناقض وحل هذا الاختلاف انما يكمن في القانون السماوي على تفصيل طويل ليس هنا محله بيد اننا نشير اجمالا الى الكيفية التي يتمكن بها الدين من ذلك؟؟؟ وما علاقة هذا بالاخلاق؟؟
ان مساحة الدين الالهي اوسع من مساحة القانون الوضعي بعد كون الدين يمتد الى اعماق الانسان ويتحكم في حركاته وسكناته, ظاهره وباطنه, فضلا عن انه يخلق دافعا ذاتيا لدى الانسان للالتزام بالمقررات والقيم والمفاهيم التي ينص عليه أويؤيدها من دون ان يكون هناك اي حاجة الى ضغط او اكراه من احد بعد عدم وجود سلطة او اطلاع لاي احد على دوافع الانسان الباطنية, وبهذا يمكن الاجابة عن التساؤل الاساسي حول الدافع الذي يدفع الانسان مطيعا لامكرها للتنازل عن حقوقه وامتيازاته؟؟
ان الجواب يكمن في الدين اما كيف يكون هذا فهو يكون عن طريقين نذكر احدهما ويتلخص في جعل الخسارة العاجلة التي يشعر بها الانسان في حال التنازل عن بعض حقوقه ربحا حقيقيا في نهاية المطاف عبر حالة استشعار الامتداد الاخروي وان كل تنازل مهما كان صغير او دقيقا فان الانسان سيجزى عليه خير الجزاء واوفاه وبالتالي فهو لايتنازل مقابل لاشيئ:(من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها),,(من عمل صالحا من ذكر او انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب),,(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره),,(ذلك انهم لايصبهم ظمأ ولانصب ولامخمصة في سبيل الله ولايطؤون موطئا يغيظ الكفار ولاينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح ان الله لايضيع اجر المحسنين ولاينفقون نفقة صغيرة ولاكبيرة ولايقطعون واديا الا كتب لهم ليجزيهم احسن الذي كانوا يعملون).
اما علاقة هذا بالاخلاق فنذكر وباختصار ان الدين في هذه المسألة يضع للناس مقياسا خلقيا جديدا يختلف عن المقياس السابق فبعد ان كان المقياس السابق هو تحقيق المصالح الذاتية اصبح الان هو السعي لرضا الله تعالى.

بعد ان نتجاوز هذا المسألة نقول ان كثيرا من القيم والرذائل الاخلاقية التي تنمو في الحياة الاجتماعية من قبيل العدل والظلم مثلا والتي يحكم بها العقل في رتبة سابقة على الدين، إذا ورد تأييد من الشّرع لما حكم به العقل، فإنّ ذلك سيكون عاملاً مهماً في ترسيخ هذه المفاهيم في عالم الوجدان، و ترجمتها على مستوى الممارسة والعملفعلا او تركا.
ان الدين مصدر رئيسي لذلك النوع من الاخلاق التي لايستطيع العقل والوجدان البشري الوصول اليها وعلى هذا جاءت كثير من التشريعات التي لايمكن للعقل والوجدان ان يكونا مصدرا تشريعيا فيها فضلا من ان للدين منهجا خاصا في علاج الكثير من الرذائل الاخلاقية وازلت اسبابها وتأثيراتها من الفرد والمجتمع , وبكلمة جامعة يشير بعض الباحثين الى دور الدين المهم في تطبيق الاخلاق وتفعيلها قائلا: هل يمكن للأخلاق أن توجد بلا دين أم لا؟ وان أمكن أن يكون لها وجود فسيكون الدين مؤيداً لها ودعاُمة وسنداً؟؟، ورأي البعض (حتى الغربيون) أن الأخلاق لا يمكن لها أن تستقر دون الدين، يقول الكاتب الروسي (دستويفسكي): "لو لم يكن الله موجوداً لأبيح كل شيء" مراده أنه سوف لا يكون هناك أي شيء يمنع الإنسان من أن يرتكب العمل المنافي للخلق


أوضحت التجربة أنه في الموضع الذي يفرق فيه بين الدين والأخلاق تكون الأخلاق متأخرة جداً، ولم ينجح أي من المذاهب الخلقية اللادينية في برنامجه، وان القدر المسلم به هو أن الدين في الأقل ضروري لأن يكون دعاُمة للأخلاق الإنسانية، من هنا يرتفع الهتاف بتعابير مختلفة، إن البشر مهما تقدم في الصناعات وصنع الحضارة، فإنه قد تأخر في الأخلاق، لماذا؟ لأنه لم يكن وجود للمذاهب الخلقية، فإن المذاهب الخلقية القديمة لم تكن سوى اعتقادات وبمقدار ما يضعف الدين والإيمان، تضعف الأخلاق، من هنا يجب أن نعير قيمة عالية للإيمان إن قلنا في الأقل: إنه لدعاُمة الأخلاق ـ ولم نقل: إنه الضامن والمتكفل الوحيد لتطبيقها
.

الدين ونسبية الاخلاق

تحت هذا العنوان يطرح التساؤل القائل هل ان الاخلاق ذات ابعاد مطلقة وثابتة تتجاوز الزمان والمكان ام انها لاتعدو كونها صفات نسبية تختلف باختلاف الزمان والمكان والمجتمع وعلى هذا الاساس يمكن ان تكون سجية ما حسنة وجيدة الا انها وتحت ظروف وملابسات جديدة يمكن ان تكون سيئة وقبيحة؟؟؟؟
ترى جملة من الفلسفات: أن الأخلاق ليست ذاتية،بل هي مجرد شعور يتسرب إلى الإنسان من التربية والمحيط دون أن يعتمد على شيء من الواقع، ومن هنا تنوعت القيم الأخلاقية تبعاً لاختلاف الأمم والشعوب والأزمنة والأمكنة، فما تراه أمة خيراً تراه ثانية شراً، وما يُعد في هذا الزمان مباحاً كان بالأمس محظورا .
.
لقد راينا قبل قليل ان القول بذاتية الاخلاق وشموليتها ليس قولا يختص باتباع الاديان بل هو امر تعدى حتى الى اصحاب الفكر الجديد والقديم وبالتالي فان النزاع في هذه المسألة لايمكن ان ينحصر في دائرة المتدينين وغيرهم حتى يقال ان المتدينين يؤمنون بضوابط غيبة ثابتة وصارمة بل يتعدى الامر الى ماهو اوسع خصوصا وان هذه القضية قد طرحت ومنذ زمن متناه في القدم بعد ان رأينا ان السفسطائيين قد القوا بدلوهم في فذلكة هذه المسالة.
يرى المفكر الاسلامي الايراني الشهيد مطهري ضرورة التفريق مابين الاخلاق والسلوك فهو يقول ان الأخلاق هي عبارة عن مجموعة من الخصال والسجايا والملكات المكتسبة يرتضيها الإنسان بوصفها قواعد خلقية، وبعبارة أخرى هي قالب روحي للإنسان، تصهر روح الإنسان في ذلك القالب الذي هو أمر مطلق وعام ودائم، إلا أن سلوك الإنسان الذي هو عبارة عن تطبيق تلك الروحيات في الخارج يختلف تبعاً للظروف المختلفة، وبعبارة أخرى: ان مظاهر الأخلاق الإنسانية وتجلياتها تختلف باختلاف الظروف، ففي ظرف ينبغي أن يكون نفس الإنسان في مكان ما بشكل وفي مكان آخر يكون له شكل آخر، فهناك فرق كبير بين أن نقول: إن الإنسان نفسه يتغير بتغير العصور والأمكنة، وبين أن نقول: إنه يمكن أن تكون للإنسان قابلية عالية وسامية في المحافظة على أصالته، ولكن تختلف فيه مظاهره السلوكية باختلاف الأزمنة والظروف المختلفة
ويشدد الشهيد مطهري ايضا على انه ينبغي عدم الخلط بين كون الأخلاق مطلقة وكون الفعل الخلقي مطلقاً، أي لا يمكن الاستناد إلى فعل، والقول: إن هذا الفعل خلقي دائماً، كما أنه لا يمكن أن يقال: إن هذا الفعل مناف للأخلاق دائماً، وغلباً ما صار هذا الأمر سبباً لوقوع الكثير في الاشتباه, ويعتقد مطهري ان هذا الخلط بين الاخلاق والفعل الخلقي المحدد قد صار سببا مهما في نفي الاخلاق الثابتة لان القائليين بالنسبية الاخلاقية تصوروا أن اللازم للأخلاق المطلقة والثابتة هو أن علينا منذ البداية أن نصنف الأفعال، وأن نضع جملة منها في طرف ونقول: إن هذه الأعمال أعمال خلقية، ونضع جملة منها في طرف آخر ونقول: إنها ليست خلقية, وينفي الشيخ مطهري هذا التصنيف جملة وتفصيلا قائلا:( ولكن ينبغي أن نقول: كلا، فعلى حد تعبير القدماء: إن الأفعال تختلف بالوجوه والاعتبارات، أي من الممكن أن يكون فعل ما باعتبار خلقياً، وغير خلقي باعتبار آخر، إن كون السلوك مطلقاً أو نسبياً هو غير كون الأخلاق مطلقة أو نسبية، مثلاً: هل صفع اليتيم فعل خلقي وحسن أم هو مناف للخلق وسيئ؟ الجواب: انه لا يمكن الحكم على مطلق صفع اليتيم وبأنه حسن أم لا، فتارة نصفع اليتيم كي نسلبه حقه، وأخرى نضربه حتى يتأدب، فإذن لا يوجد حكم ثابت لصفع اليتيم وكونه سيئاً مطلقاً أو جيداً مطلقاً، بل أحياناً يكون جيداً إذا كان في موضع التأديب، وفي موضع آخر يكون قبيحاً كسرقة ماله أو ابعاده ونفيه أو قهره: (فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر((
ويضيف مطهري ان الذين يؤمنون بنسبية الأخلاق يقولون مثلاً: كانت العفة في يوم ما صفة حسنة في المجتمع ـ على مستوى حاجة المجتمع وظرفه ـ لأن الحياة كانت حياة فلاحية وكان مقتضى حياة الفلاحة أن تكون العوائل مستقلة ومنفصلة عن بعضها الآخر، هذا ما كانت تقتضيه المصلحة، ولذا كان من المستحسن التأكيد على تأصيل العفة، ولكن بعد ذلك ظهرت الحياة الآلية وجرت المرأة في خضم المجتمع وداخل المعامل، فالعفاف كان يوماً ما خصلة جيدة، وأما الآن فانه ليس كذلك
وهذا الكلام ليس صحيحاً على المبنى الذي ذكرناه، فإن العفة بعنوانها حالة نفسية معناها: انصياع القوة الشهوانية لسلطان العقل والإيمان، وعدم الخضوع لقوة الشهوة.

فإذن العفة جيدة في جميع الأحوال، نعم لا مانع من اختلاف ذلك الفعل الذي نسميه خلقياً، لكن ليس بالمقياس الذي يقول به هؤلاء، ففي هذا المقياس لا يختلف الحال أبداً، مثلاً في الأمثلة الفقهية المعروفة، يقولون: امرأة مريضة وبحاجة إلى طبيبة، ولا توجد طبيبة، ولابد للطبيب أن يمسَّ جسدها والمفروض أن حياتها في خطر، ففي هذه الصورة تجوز مراجعة الطبيب، إن لمس المرأة والنظر إلى جسدها من قبل الأجنبي أمر مخالف للعفة، ولكن هذا الفعل يفقد جنبته غير الخلقية في ظل ظروف استثنائية، ولكن هنا شيء آخر غير كون العفة بذاتها تفقد قيمتها كخصلة وسجية، وإنما تبقى قيمتها محفوظة، وإنما الذي يتغير هي الحالة أو الفعل



والنتيجة التي نخلص اليها من هذا كله هي ان الاخلاق بما هي سجايا وخصال روحية تمثل قوالب ثابتة لايمكن ان تتغير تبعا لتغير الظروف والعوامل المحيطة بالانسان بيد ان الافعال الخلقية بما هي سلوكيات وتطبيقات لتلك القواعد قد تمر بظروف استثنائية يمكن ان تكون معه هذه الافعال نسبية وعلى هذا فان النسبية لاتقع وصفا للاخلاق بما هي سجايا وخصال وانما من يوصف بها هو الافعال والسلوكيات فقط وبذلك يتضح الجواب عن كيفية التوفيق بين حاجات الانسان المتغيرة والمتجددة وبين الاخلاق والضوابط الغيبة الثابتة .

سروش والديمقراطية الدينية . ابن الرافيدن 14


يرى الدكتور عبد الكريم سروش ان الديمقراطية سواء كانت على مستوى نفس الفكرة بما هي فكرة او على مستوى الجمع بينها وبين الدين من الامور التي تقع خارج اطار الدين لذا من الخلط المنهجي ان نقوم ببحث هاتين المسألتين من داخل الدين وبالتالي الحكم عليهما سلبا او ايجابا لذا يقول في كتابه الدين العلماني المقالة 6 ص198:

(ان الجمع بين الدين والديمقراطية هو تدبير يقع خارج دائرة الدين ولااقل من كونه بحثا معرفيا ابستمولوجيا للعلاقة بين الدين والديمقراطية ولذلك لامعنى للتحرك على مستوى انكار او تاييد الدين الديمقراطي من خلال الاستدلال بالاحكام والاجتهادات الفقهية من داخل دائرة الدين )

بل نراه يتعامل مع المفاهيم الديمقراطية تعامل المسلمات العقلية التي يجب ان تشكل ضابطة ومعيارا يوزن بها الدين لفهم واقعه واستجلاء حقيقته وجوهره لذا يقول في نفس الصفحة:


(ان الديمقراطية سواء قلنا انها منهج موفق لتحديد السلطة ونيل العدالة وتامين حقوق الانسان او كانت مبدءا يتضمن هذه القيم ففي الصورتين ينبغي ان يتطابق الفهم الديني مع هذه القيم لا ان نتحرك من موقع تطبيق هذه القيم على فهمنا الديني لان العدل ليس بالضرورة ان يكون دينيا بل ينبغي للدين ان يكون عادلا وهكذا بالنسبة الى المنهج فانه لايستخرج من ذات الدين بل ان الدين يستفيد من عملية تفعيل عنصر العقيدة وترشيد المسار الديني للفرد والمجتمع وعلى اية حال فالبحث في الديمقراطية وعلاقتها مع الدين لابد ان يقع خارج دائرة الدين من وحي ان المعطيات العامة لهذا البحث بمثابة المقدمة لفهم الواقع والحقيقة في جوهر الدين وكذلك البحث في حقوق الانسان او البحث في مسالة الجبر والاختيار فهي من الابحاث الكلامية والفلسفية التي تتجاوز دائرة الدين والنصوص الدينية وتؤثر في كيفية قرائتنا للدين والمعارف الدينية )

وفي صدد التعليق على هذا الكلام نقول: ان كون الجمع بين الدين والديمقراطية يقع خارج الدين امرا يكتنفه الغموض والابهام اذ مالمقصود بالخارج عن الدين تحديدا ؟؟ بكلمة اخرى ان الجمع بين الدين والديمقراطية لابد ان يكون متأخرا عن مرحلة حقانية الدين والديمقراطية وقطعية مفرداتهما ومن هنا نسأل عن الفضاء الذي ثبت فيه صحة مقولة الديمقراطية وهو قطعا غير الدين بحسب الفرض فماهو ياترى؟؟؟
فهل يقصد ان المسألة من المسائل العقلية التي يستقل العقل بادراكها بلاادنى حاجة للدين وبالتالي فهي متقدمة من حيث قيمتها المعرفية عن بحثهها دينيا بعد كون الشرع لايعدو ان يكون مؤيدا للاحكام العقلية التي يستقل العقل بادراكها؟؟.

او ان المقصود هو الاستنداد الى سيرة العقلاء وارتكازهم وسلوكهم ولو بلحاظ النتائج المهمة التي تحققت على الواقع العملي حينما سارت الانسانية في طريق الديمقراطية ومفرداتها وماحققت في هذا الطريق من نتائج باهرة على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها؟؟

وسواء كان الاحتمال الاول هو المقصود او الثاني فان الامر لايخلو من تحفظ بل تحفظات على كلا الاحتماليين لوضوح انه لو قصد بان تلك القيم هي نتاج العقل القطعي فان هذا سيكون محض ادعاء يحتاج الى اثبات ولااقل ان العقل لايستقل-ابتداء- في تحديد طبيعة الحكم السياسي وشكله وانه باي صورة يجب ان يكون فضلا عن ان اكثر القيم المذكورة والتي تتحدث عن العدل وحقوق الانسان وسواها يمكن للعقل ان يدركها على مستوى المفاهيم بيد انه لايمكن ان يحدد يقينا اكثر مصاديقها وتطبيقاتها الحياتية ومن هنا وجدنا اختلافا كبيرا بين العقلاء وبين المجتمعات في اكثر القضايا المطروحة ولم تصل الانسانية فيها الى الان رغم طول المدة الى حكم جازم غير قابل للتغيير ولاخاضع لتأثيرات القبض والبسط مما يدلل بالتالي على ان هذه القضايا ليست من مفردات العقل القطعي لااقل من وجهة نظر تطبيقية.

اما اذا اريد الاستنداد الى سيرة العقلاء وسلوكهم فان هذا بحد ذاته ليس دليلا يمكن الركون اليه ولابد لاتمامه من ارجاعه الى دليل معتبر سواء اكان دليلا عقليا يقع خارج الدين او دليلا نقليا يقع داخل دائرة الدين والامر متعذر في الفرضين فانك قد عرفت مافي الدليل العقلي قبل قليل ويبقى طلب التأيد من داخل الدين امرا غير متصور بعد كون اصل ادعاء الدكتور ان مقولة الديمقراطية سواء كانت على المستوى المنهج او المبدء تقع خارج مساحة الدين وهو يوحي بانها لاتستند في اثبات صدقيتها الى الدين اصلا فكيف نعود الان ونطلب اثباتها من داخل الدين؟؟؟

وغني عن الكلام ان سيرة العقلاء وارتكازهم وعادتهم الجارية تحتاج الى اثبات موافقة الشريعة الاسلامية لها حتى تحضى بالمشروعية وهو امر لايمكن ان يدعي اي باحث تحققه.

ويبقى الاستفهام الابرز وهو اننا لو اذعنا بقطعية مقولة الديمقراطية ومفرداتها وقلنا بضرورة توافق الفهم الديني معها فكيف نفسر غيابها بالكامل عن الموروث الديني بشقيه النقلي والعملي ولو على مستوى التأيد؟؟
ان الناظر في القيم التي تحكم الواقع السياسي الذي يروج له صاحب المقالة سيجدها قيما غريبة عن بيئة النص الديني ان لم تكن عن الواقع الانساني التأريخي برمته خصوصا وهي حديثة الولادة في اكثر مفرداتها ونحن اذا دققنا تأريخ الامم لاسيما الحاضنة للاديان فسنرى شيوع قيم ومفاهيم الى حد الرسوخ والاستحكام هي بالضد تماما مما يدعيه الدكتور ويدعو اليه ومن هنا لماذا سكت الدين ولم ينطق ببنة شفه لادانة هذه المفاهيم الخاطئة وترك الانسانية في التيه والضلال طيلة اجيال متلاحقة لاسيما وان تلك المفاهيم ترتبط ارتباطا مباشرا بالعدل ومعلوم قيمة العدل واهميته لدى الاديان؟؟

لقد ألفنا الدين يتكلم حتى في البديهيات فضلا عن القضايا النظرية التي يستقل العقل بادراكها واثباتها , فقد تكلم في التوحيد والنبوة والمعاد والامامة والعدل والجبر والاختيار وصفات الحق وعشرات من االقضايا الكلامية والفلسفية والتي تقع خارج دائرة الدين فلماذا سكت ياترى عن الاشارة الى شكل الادارة بالصورة التي يراها دكتور سروش مع انها اسس اساس المجتمع وحجر الزاوية فيه؟؟


ولو كان النظام الديمقراطي هو النظام الذي يقتضي ان يكون الفهم الديني متطابقا معه فلماذا غابت حملات التوعية للامة من لدن القادة الدينيين لتركيز هذا النظام وبيان اسسه الشرعية والعقلية
.


وحدوده وتفاصيله ، وإعطائه طابعا دينيا مؤيدا ، وإعداد المجتمع إعداد فكريا وروحيا لتقبل هذا النظام مع العلم ان المجتمع الذي احتضن التجربة الدينية لم يمر بتجربة سياسية مشابهة ولو بالحد الادنى لطبيعة النظام الذي يؤسس له الدكتور ؟؟
نعم قد يوجه الاساس العقلي الذي يكون منطلقا للحكم بضرورة المفاهيم الديمقراطية بشقيها المبدئي والمنهجي بتوجيه اخر: وهو اننا لاندعي ان العقل يحكم بهذه الضرورة ابتداء وبصورة مباشرة حتى تكون مؤاخذاتكم تامة بل ندعي ان العقل حاكم بذلك بعد اجراءه سلسلة من المقايسات والمقارنات يسلط فيها الضوء على معايب ومحاسن النظم السياسية والاجتماعية فيتوصل بعد ذلك الى ان النظام الاصلح هو ذلك النظام المبتني على الاسس الديمقراطية بمحاسنه التي ذكرها الدكتور سروش ومن هنا يحكم بضرورته اما وفقا للقاعدة العقلية القاضية بارتكاب اقل الضررين اواختيار النظام الذي يضمن تحقق اقصى درجة ممكنة من العدل وتحجيم الظلم بافضل درجة ممكنة او غيرها من القواعد العقلية التي يستطيع الانسان ادراكها بلاحاجة لبيانات الدين.



وهذا التوجيه لايجيب عن الاستفهام الذي طرحناها قبل قليل والذي تحدث عن السر المستسر وراء خلو الموروث الديني-على غير عادته- من اي اشارة ولو صغيرة الى هذا الحكم العقلي في هذه المسالة التي قد لاتعدلها مسالة اخرى بالحاظين النظري والتطبيقي, ويكفي شاهدا على ذلك ان نطلع على الواقع التاريخي للمجتمع الاسلامي واشكاليات التطاحن الفكري والعملي في مسالة السياسة والحكم.
على ان الديمقراطية الدينية وادواتها على وفق فهم الدكتور سروش ليست مطلوبة لذاتها بل بماهي وسيلة وحيدة لضمان حقوق الانسان وتحديد القدرة وتحقيق العدل وغير ذلك ومعلوم ان هذا الفهم لايتفق مع عقيدة الامامية واشتراط كون الامام معصوما ومنصوصا عليه فانه وبناء على هذه العقيدة لايبقى اي احتمال لامكان الاستبداد او الظلم حتى يقال بفصل السلطات وتحديد القدرة وضمان تحقق العدل وغير ذلك من دواعي واسباب المناداة بالنظرية الديمقراطية.
وكيف كان فلو سلمنا بان نظرية الديمقراطية الدينية والتي يؤسس لها خارج دائرة الدين هي افضل اشكال النظم السياسية واكثرها تحققيا للعدالة الاجتماعية فان هذا الحكم يبقى حكما استثنائيا لايمكن للعقل ان يجعل منه ضابطة كلية صالحة لجميع الظروف والاوضاع بعد عدم اباءه-اي العقل- عن وجود نظام اخر يكون على وزان هذا النظام-ان لم نقل افضل منه- في تحقيق قيم العدالة مادام لجؤنا الى النظام الديمقراطي باعتباره افضل الموجود لا باعتباره ضرورة عقلية وحيدة مما يفتح المجال لاحتمال ظهور نظريات اخرى مما يعني عدم يقينية القول بالنظرية الديمقراطية .
والنقطة الجديرة بالتأمل هي قول الدكتور في المقطع الذي نقلناه عنه(وعلى اية حال فالبحث في الديمقراطية وعلاقتها مع الدين لابد ان يقع خارج دائرة الدين من وحي ان المعطيات العامة لهذا البحث بمثابة المقدمة لفهم الواقع والحقيقة في جوهر الدين).
والذي نفهمه من هذه الكلام ان الدكتور يجعل المعطيات العامة والثمرات المترتبة على بحث الديمقراطية ضوابط حاكمة على مفاهيم الدين وعلى الدين نفسه ألا يخالفها او يتقاطع معها وكل مايكون كذلك ظاهرا يجب تأويله تأويلا صحيحا او يجب طرحه تماما كما نفعل مع المفاهيم الدينية التي يوحي ظاهرها بمخالفة حكم العقل بعد عدم معقولية تهافت العقل والنقل لوضوح ان النقل ماكان ليثبت لولا العقل.
ومحل التأمل في هذا الكلام انه يجعل معطيات الديمقراطية على منوال الاحكام القطعية العقلية التي يجب رفع اليد معها عن الاحكام الدينية التي يشم منها رائحة التعارض لتلك المعطيات بل هي الاداة التي نستجلي من خلالها واقع الدين وحقيقتة وجوهره الذي ينبغي ان يتفق مع نتاجاتها بينما هي-اي الديمقراطية- لاتعدو كونها تجربة انسانية خضعت وتخضع للصيرورة الاجتماعية والفكرية وليست هي نتاج العقل القطعي كما انه ليس من الضروري ان يكون الفهم الديني متناغما معها بعد عدم قطعية احكامها ومفرداتها التي من الممكن ان تطالها يد التعديل والحذف والزيادة وفقا لتكامل الرؤى البشرية بل ان للاستحسان والذوق الانساني تأثيرا كبيرا في تحديد مفاهيم العدالة وحقوق الانسان والحرية وغيرها , ومن البين وضوح المجازفة في جعل المفاهيم الدينية تابعة لمعطيات قابلة للتغيير اولا ومبتنية على الاستحسانات الذوقية في اكثر مفرداتها ثانيا.
ان ظاهر عبائر الدكتور سروش-كما قلنا- هو التعاطي مع نتاجات الديمقراطية سواء كانت على مستوى المنهج او على مستوى المبدء تعاطيا قطعيا رأينا تأثيره مثلا في جعل مقولة حقوق الانسان مقيدة لاطلاق الكثير من الاحكام الشرعية ومخصصة لعموماتها بل ومحددة لظرفية هذه الاحكام الزمانية والمكانية حتى ولو كانت هذه الاحكام واضحة وضوحا لالبس فيه في الشمول لافراد الانسان جميعا على مستوى الزمان والمكان كما في قضية(للذكر مثل حظ الانثيين) وهكذا في قضية الارتداد ,وقد حاول الدكتور المذكور اقحام العدل والظلم لاثبات لامعقولية هذه الاحكام التي ظاهرها الظلم ومعارضة حقوق الانسان كما هو واضح من ايرداته ومناقشاته مع ان المناقشة ليست في العدل والظلم كمفهومين بل فيهما كمصاديق وتطبيقات وجميع ايردات الدكتور كانت على النحو الثاني وهو امر لايوافقه عليه الكثيرون ممن لايرون في هذه التشريعات اي نقض للعدل او تشييد للظلم فضلا عن ان اكثر مفردات حقوق الانسان ليست عقلية حتى يحتج بها ويجعلها مقدمة لرفع اليد عن كثير من الاحكام الدينية.
وبكلمة اخرى ان الدكتور سروش حينما يقول في ص199(...ان بحث الحكومة الدينية ينبغي ان ينطلق من زاوية التأصيل لمقولة حقوق الانسان والعدالة وتحديد السلطة ....ثم محاولة تطبيق فهمهم ونظرتهم للدين على هذه المعايير والقيم) حينما يقول هذا فهو يحتاج في الرتبة السابقة ان يثبت ان مقولاته السالفة احكاما عقلية قطعية وليست ذوقية استحسانية ثم بعد ذلك يمكن النظر في تأويل المفاهيم الدينية التي ظاهرها خلاف المقولات القطعية السالفة, وهو امر اعترف سروش نفسه بضرورته حيث قال في ص200(وعلى هذا الاساس فان كشف واستنباط المناهج العادلة للسلطة وتحديد القدرة وتعيين المصاديق القطعية لحقوق الانسان تعد في المرتبة الاولى ضرورة منطقية ولابد ان تكون مستوحاة من منبع العقل لا الدين), وهذا الكلام تام ومنطقي لو حاول الدكتور تحديد ماهية حقوق الانسان ومصاديفها فضلا عما اسماه المناهج العادلة للسلطة وتحديد القدرة للنظر بعدها في قطعيتها وعقلانيتها من عدمه كي نقبل النتائج التي رتبها في نفس الصفحة بقوله(...مما يمهد بالتالي لبروز العقلانية الجمعية واستخدام المناهج النظرية والعملية والتأريخية في مقام فهم الدين وقبول الدين وتكريس ادوات العقلانية في اطار المنظور الديني للمساهمة في عملية عقلنة الدين وفق مستجدات المعارف والعلوم البشرية مما يساهم ايضا في فتح الطريق امام بلورالية معرفية في دائرة المذاهب والاديان والتي تعد احد الاركان المهمة في العملية الديمقراطية).



يقول الدكتور سروش في ص204(...ليس من السليم ان نضع اراء الفقهاء الى جانب اراء الفلاسفة في الحكم والسياسة ولكن مع الاسف نرى ان الفكر الاسلامي الفقاهتي يعمل على تسخير الذهنية المسلمة ليضفي على الابحاث الابستمولوجية صبغة فقهية الى درجة ان الفقهاء جعلوا الديمقراطية في عداد افعال المكلفين وتحدثوا عن حرمتها او حليتها!!)
والحقيقة اننا نتعجب من كلام الدكتور ربما بنفس الدرجة التي تعجب هو فيها من كلام الفقهاء!!
اما لماذا التعجب؟
فهذا راجع الى كون مسالة السياسة والحكم من المسائل الكلامية التي دأب المتكلمون المسلمون على طرحها في الابحاث الكلامية للبحث في اصل الحكم وشكله , على ان المتتبع سيجد في طيات استدلاتهم-لااقل المتكلمون الشيعة- اعتمادهم الدليل العقلي لااثبات اصل الحكم وشكله نعم يبقى الكلام في ان هذه المسألة العقلية هل لها امتدادتها الفقهية اولا؟؟
وواضح ان الجواب سيكون بالايجاب بعد كون تشاور الامة او اهل الحل والعقد منها وافراز ذلك حاكم سياسي -بناء على الشورى- واجبا تكليفيا شرعيا, كما ان التسليم لنتيجة الشورى يقع ضمن دائرة الافعال التكليفية للعباد وهكذا غيرها من المسائل المتفرعة على القول بنظرية الشورى.
كما ان الامر يجري حتى في نظرية النص الالهي فمع التسليم بالنص يجب شرعا على الامام اظهار نفسه فيما لو اكتملت الشرائط ويجب على الامة مساعدته وتمكينه من الحكم وهكذا مع ان هذا كله داخل في دائرة الاحكام التكليفية.
وهكذا الامر تماما فيا لو بنينا على نظرية الديمقراطية الدينية فحتى لو كان حكمها مأخوذا من خارج الدين وان العقل يحكم بها بمعزل عن الدين فان وجوب تشكيل مجتمع ديمقراطي هو حكم تكليفي يقع في دائرة افعال المكلفيين وهكذا التسليم لنتائج الاليات الديمقراطية والحفاظ على هذا النظام الديمقراطي وغير ذلك كلها مسائل تكليفية, على اننا حتى لو قلنا ان هذه المسائل وغيرها يمكن ان يستقل العقل بادراكها-رغم ان العقل لايطال الجزئيات- فان ابداء الفقه رأيه فيها يصلح ان يكون مؤيدا لحكم العقل وبالتالي لاضير في جعل الفقهاء الديمقراطية في عداد افعال المكلفين كما ذكرنا.



ويمضي سروش قائلا في ص2007(ان مايتنافى مع الديمقراطية هو الاكراه على دين معين واستخدام ادوات العنف في عقاب الاشخاص الذين لايلتزمون بالاحكام الدينية فلو افتى القائمون على الحكومة الدينية الفقهية بجواز هذه الممارسات والسلوكيات فحينئذ يمكن القول بعدم امكان الجمع بين الديمقراطية والحكومة الدينية).
ونحن لانتفهم فكرة معارضة تطبيق القوانين الاجرائية والجزائية مع الديمقراطية!! ولماذا يختص الامر بالحكومة الفقهية الدينية على تعبير سروش؟؟ ولم لا يعم جميع الحكومات الدينية وغير الدينية التي تطبق القوانين الجزائية والاجرائية وتكره مواطنيها 
على الالتزام بالقانون؟؟ وكيف صارت العقوبة على مخالفة القانون انتهاكا للديمقراطية؟؟

نقد مباني البلورالية الدينية . بقلم ابن الرافدين14

تبتني نظرية التعددية الدينية التي يطرحها الدكتور عبد الكريم سروش على مباني متعددة ترتبط ارتباطا وثيقا بحقانية النظرية نفسها وبالتالي فان اي خلل في هذه المباني يشكل خللا في النظرية التي هي بمثابة النتيجة المنطقية المترتبة على تلك المباني, ونحن نحاول بعون الله تعالى سرد هذه المباني وتقيمها تقيما موضوعيا لننظر هل تصلح كمبرر موضوعي للقول بالتعددية او لا؟

وينبغي ان يكون واضحا ان حديثنا في نقد هذه المباني لايعني بالضرورة نفي التعددية الدينية بقدر مايعني عدم تمامية هذا الطريق الذي تشكله هذه المباني بمجموعها واليك هذه المباني تباعا:



المبنى الأول: أن القول بالتعددية الدينية هو نتيجة طبيعية لنظرية القبض والبسط التي يتبناها سروش ويفترض انها تامة في رتبة سابقة عن بحث التعددية نفسها لذا يقول في ص12-13 من الصراطات المستقيمة:

(المبنى الاول....كان حديثنا في نظرية القبض والبسط هو ان فهمنا لمتون والنصوص الدينية متنوع ومتعدد بالضرورة, وهذا التنوع والتعدد لايقبل الاختزال الى فهم واحد وليس هذا الفهم متنوعا ومتعددا فحسب بل سيالا ايضا والسر في ذلك ان النص صامت ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية وتفسيرها سواء في الفقه او الحديث او القران من خلال الاستعانة بمسبوقاتنا الفكرية وتوقعاتنا من النص والاسئلة التي تدور في اذهاننا في مرحلة سابقة, وبما انه لايوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والاسئلة والفروضات المسبقة, وبما ان هذه التوقعات والفروضات المسبقة مستوحاة من خارج الدين وبما ان الفضاء المعرفي خارج الدين متغير وسيّال كما ان العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الانسانية تزداد وتتراكم وتتغير باستمرار فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الاسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة هذا هو مجمل ماورد في نظرية القبض والبسط).
ويضيف قائلا:
(وسواء كنت تعتقد بهذه الالية الخاصة او لاتعتقد فانه لايمكنك انكار ان القران الكريم واحاديث النبي تحتمل تفاسير متعددة وكما ورد في الروايات ان الكلام الالهي ذو بطون بحيث اننا اذا كشفنا الطبقة او القشرة الاولى في معنى النص لظهرت لنا طبقة اخرى من المعنى. واحد الاسباب الكامنة في هذه الظاهرة هو ان الواقع يتضمن التعدد في باطنه وبما ان الكلام يحكي عن الواقع ويكشف الستار عنه فسيكون متعددا بالتبع وهذا المعنى لايختص بالكلام الالهي فعندما نقرأ في مكتوبات عظماء الادباء والشخصيات العلمية والادبية فاننا سوف نصطدم بنفس هذه الظاهرة وسنجد ان كلامهم ذو بطون ويحتمل وجوها متعددة.... وهناك روايات عديدة تشير الى ان للقران سبعا او سبعين بطنا وهناك روايات تشير الى بعض ايات القران نزلت لأقوام متعمقيين سياتون في اخر الزمان, ان تأريخ تفسير النصوص سواء في دائرة الفكر الاسلامي او في دائرة الاديان الاخرى يشير الى التفاوت الكبير في استنتاج البشر من الكلام المقدس...).

وفي ص15 يمضي قائلا(...لايوجد دين بدون تفسير فالاسلام يعني تأريخ التفاسير والشروح التي صدرت عن الاسلام والمسيحية تعني تاريخ التفاسير التي تحدثت عن المسيحية وهكذا... ولاتعني المعرفة الدينية سوى مجموعة هذه التفاسير السقيمة والصحيحة ونحن نسبح في في بحر من التفاسير والافهام للنصّ, هذا هو مقتضى ماهية الدين من جهة ومقتضى بشريتنا وبناء اجهزتنا الادراكية من جهة اخرى, فان الاسلام السني يعتبر فهما خاصا عن الاسلام والاسلام الشيعي ايضا فهم اخر عن الاسلام.

هذه الافهام وتوابعها تعتبر كلها طبيعية ورسمية....لعل معنى ذلك ان نفس هذه اكثرة مطلوبة ولعل معنى الهداية اوسع مما نتصور ولعل النجاة والسعادة الاخروية تكمن في شيئ اخر وراء هذه الافهام واانطباعات الذهنية عن الدين والمذهب ولعل فهم الدين يعبّر عن حاة جماعية ايضا كما في الحال في الحضارة البشرية والتمدن الانساني).


في ص17(....ففي المعرفة الدينية كما هو الحال في سائر المعارف البشرية لايكون قول احد حجة تعبدية على شخص اخر ولايوجد اي فهم مقدس وخارج دائرة النقد وهذا الكلام كما انه صادق وصحيح في علم الكيمياء مثلا فكذلك هو في الفقه والتفسير ).

المبنى الثاني: يتعلق بالتجربة الدينية التي تتلخص في كونها مواجهة مع المطلق والمتعالي، ولهذه المواجهة تجليات تظهر في صور مختلفة والوان متعددة ومن هنا فهي قابلة لاكثر من تفسير، و معلوم ان الأديان كلها مسبوقة بـ(الكشف الشهودي المعنوي)
قال في ص17ومابعدها:(المبنى الثاني نصل الى النوع الثاني من البلورالية الناشئة من تنوع وتعدد تفاسير التجارب الدينية. التنوع الذي لايقبل الوحدة في ذاته فكما اننا لانمتلك دينا غير مفسر فلذلك لاتوجد تجربة غير مفسرة سواء في دائرة الطبيعية او ميدان الروح, فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم اوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود اى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا. وعلى سبيل المثال ما نجده في مسالة وحدة الوجود فقد كانت في البداية من كشوفات العرفاء ثم انعكست على شكل بيان فلسفي واثارت الكثير من السجال والشجار والنقد.
ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....).

وقال في ص24:(اذن فالطريق الاخر لوجود ظاهرة التعدد والتنوع في الفكر الديني هو وجود تفاسير متعددة للتجربة الواحدة سواء قلنا ان التجربة الدينية امر واحد له تفاسير مختلفة ومتنوعة او قلنا ان التجارب الدينية متنوعة ومتعددة في الاصل, على اي حال نحن نواجه التنوع الذي لايقبل الاختزال ابدا الى امر واحد فيجب الاعتراف بهذا التنوع وعدم التغافل عنه ولابد ان تكون نا نظرية ورؤية معيّنة لهذا التنوع في حدوث التجارب الدينية...الى ان يقول: وهكذا بالنسبة لتجربة النبي الاكرم ص عن النعيم الاخروي والبهجة المعنوية حيث ظهرت في مقام البيان بقالب((الحور العين)) فلانجد اية في القران تتحدث عن نساء شقراوات وعيون زرق ومن هنا نرى العرفاء المسلمين في تحليلهم لظاهرة التعدد في الكشوفات يقولون انه عندما تتفاوت الرؤية لدى اهل الكشف والتجربة فان حصيلة تجاربهم هذه ستكون متفاوتة ومختلفة.... وليست هذه الرؤية تقتصر على الاتباع فقط بل تشمل رؤية الانبياء فالحقيقة واحدة ولكن هولاء الانبياء الثلاثة ينظرون اليها من ثلاث زوايا او يقال بتجلي الحقيقة لهولاء الانبياء الثاثة على انحاء ومن خلال ثلاثة نوافذ ولهذا قدموا لنا ثلاثة اديان وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة....).


في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول الاستعانة بالتجارب العرفانية والصوفية مستحضرا في ذلك العديد من ابيات جلال الدين الرومي ومولوي التي تتحدث عن تموضع الحقيقة خارج النزاعات الدينية والمذهبية وان العالم مجموعة من الخطوط المستقيمة وبالتالي فان اختلاف الاديان لايعود لعوامل الضلال والانحراف بقدر مايعبر عن" غرق الحقيقة في الحقيقة" واخيرا فان منشدي الحق وطلابه لابد ان يصلوا في خاتمة المطاف الى مقصدهم حتى وان تلبسوا في ظاهر الامر بتعاليم خاطئة ماداموا يجدون في نفوسهم صدق الطلب هذا اجمال المباني الثلاثة اما تفصيلها فنجدها في اكثر من موضع وكما يلي:


قال في ص35-36(المبنى الثالث:ان جون هيك يستشهد في كلماته بأبيات شعرية من ديوان جلال الدين الرومي....تكشف هذه الابيات عن سرّ اخر وهذا السر يمثل دعامة اخرى لتأيد التعددية وتصحيح مسيرة البلورالية وهذا المفهوم عبارة عن طريقة ثالثة لفهم وهضم مقولة التعددية...ان الحرب وانزاع بين موسى وفرعون نزاع حقيقي وجدي من جهة ولكن من جهة اخرى فهو من نحو من انحاء اللعبة وبمثابة ((حرب الديكة)) ومن اجل ايهام اهل الظاهر وفي النهاية القاء الحيرة وفسح المجال لاهل السر والباطن ليمروا على اشكال النزاع الدنيوي مرور الكرام وبذلك يتمكنون من العثور على الكنز في هذه الخربة التي غفل عنها اهل الظاهر المشغولون بتكريس النزاع الديني ...هذه الرؤية تأخذ بنظر الاعتبار الجدية في النزاع بين الفرق والايان ولكنها تستنتج المعنى والغاية من خارج هذا النزاع لا من خلال انتصار طرف على اخر فنتعلم من ذلك درسا اخر من هذا التعدد والتفرق وهو ان كل تزاحم وصراع يقع في هذا العالم فالغرض منه اخفاء سرّ مهم وجوهرة ثمينة فالحافظ للسرّ لاينبغي ان ينخدع بهذه الظواهر وعليه ان يترك الناس مشغولين بالنزاع والصراع ليتحرك على مستوى استخراج الكنز واكتشاف الاسرار واستلام الجوهرة الثمينة).


قال في ص37:(المبنى الرابع...فيفترض المولوي ان السبب في تفرق المذاهب وتعدد الاديان لم ينشأ من عامل التحريف ولا المؤامرة ولادسائس المغرضين او جعل الجاعلين او كفر الكافرين... وبدلا من ان يتحدث مولانا عن تراكم الضلالة على الضلالة ذهب اى مقولة تراكم الحقيقية على الحقيقة فتراكم الحقائق هو السبب في ايجاد سبعين فرقة فالانسان عندما يرى تراكم الحقائق فسوف يعيش اجواء الحيرة في اختيار وانتخاب حقيقية معينة فالتنوع لايعني حالة طارئة على حقيقة الدين بل يمثل حاى اصيلة وغير قابلة للاجتناب, ولابد من التركيز على هذه الحقيقة واستبدال الصورة والمنظر للحقيقية فبدلا من النظر الى عالم المعنى على اساس انه عبارة عن خط واحد مستقيم ويتفرع منه مئات الخطوط المنحرفة, يجب ان ننظر الى مجموعة الخطوط انها خطوط مستقيمة قد تتقاطع فيما بينها او تتوافق فهنا ميدان تراكم الحقائق اليس هذا ماذكره اقران الكريم عن صراط الانبياء بانهم((على صراط مستقيم)) بمعنى ان كل واحد منهم يتحرك في احد هذه الطرق والخطوط المستقيمة لا ان المقصود صراط مستقيم واحد؟.

ان المشكلة في نظر المولوي ليست في ان فئات من الناس لم تدرك الحقيقة وبقيت في وادي الضلالة بل في ان الحقائق المكشوفة لهم كثيرة جدا ولذلك بقوا متحيرين بين هذه الحقائق ويعيشون عالم الجذبة واجواء الكثرة والتعدد في اختيار الحقائق).

وقال في ص39:(...وبعبارة اخرى اذا كان الواقع بسيطا واذا كان الحق واحدا او بضع حقائق في عالم الوجود لاغير ولو لم تكن للواقع طبقات وابعاد متعددة ولو ان عالم الوجود لم يكن زاخرا بالاسرار والرموز ولو ان جميع الحقائق وااسرار كانت قابلة للفهم والبيان بسهولة ولو ان سان البيان كان قادرا على افشاء الاسرار وتبين الحقائق لكان من اليسير تميو الهداية عن الضلالة او الحق عن الباطل ولامجال حيئذ لتبرير وجود الفرق والمذاهب بشكل معقول ومقبول ولكن كثرة الحقائق واختلالطها فسح المجال بالضرورة لايجاد هذه الكثرة في ظاهرة الفرق والمذاهب والسبيل اوحيد لنفي الكثرة نفي وجود الاسرار والحقائق المخفية وتبسيط الامور وتسطيح الواقع وهذا بدوره عين السذاجة والسطحية).

وقال في تحديد المبنى الخامس في ص44:(ان مثل هذه الكثرة في طريق السلوك الشاق تستوعب في اجوائها التنوع والمذاهب من جهة وكذلك لاتنافي مع ادعاء اتباع كل فرقة بان الحق من جانبهم وان النجاة من نصيبهم ظاهرا وباطنا وان الاخرين يتحركون في طريقنا رغم غفلتهم وجهلهم فنحن نفيض عليهم من هدايتنا ونسلك بهم طريق الحق وان كانوا لايعلمون وبالتلي فان الجميع من اهل النجاة ويصلون الى هدف واحد فالمسلمون يرون ان جميع السالكين طريق الحق هم من المسلمين وان كانوا لايشعرون في تفسيرهم لقوله تعاى:((ان الدين عند الله الاسلام)) ويرى المسيحيون مثل"كارل رانر" ان جميع السالكين في خط الحق واايمان هم من المسيحيين في نهاية الامر او يمكن اطلاق عنوان المسيحيين المجهولين عليهم.
ويطلق""جون هيك""...على هذا المسلك""القول بالكثرة الظاهرية"" ويجعله في مقابل البلورالية""القول بالكثرة الواقعية"" وهو مختاره في هذه المقولة).



قال في ص45:(...فهنا لو نتساءل قنا بان الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والاقوام المتدينة...الذين يبلغ عددهم مليارات الافراد واعتبرنا اتباع هذا المذهب"اي الشيعة" وهم الاقلون قد نالوا الهداية الالهية وسائر الناس سلكوا طريق الضلال والكفر"في نظر الشيعة" او قلنا بان الاقلية من اليهود وهم اثنا عشرمليون يهودي هم المهتدون والاخرون ليس لهم حظ من الهداية"بنظر اليهود" ففي هذه الصورة كيف نتصور معالم الهداية الالهية متجسدة على ارض الواقع؟ ومن من الاشخاص الذين يحضون بهذه النعمة الالهية العامة وينالون لطف الله تعالى"الذي يعتمد عليه المتكلمون في اثبات النبوة" واين يتجلى اسم الهادي على مستوى الخارج؟ وكيف يمكن ان نصدق ان نبي الاسلام بمجرد ان وضع رأسه على وسادة الوفاة فان العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الالهية واهدروا بذلك جميع اتعاب النبي الاكرم ص؟ وعلى فرض ان بعض الاشخاص المعدودين كانوا يتحركون بدوافع حب الجاه والمقام ويواجهون الحق من موقع الخصومة فكيف اصبح الملايين من المسلمين"الى نهاية التأريخ" بحالة لا تقبل معها طاعاتهم ولايثابون على اتعابهم ويقبعون بانتظار سوء العاقبة؟ الا يعني هذا الاعتراف بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح النبي الاكرم ص في مهمته؟ هل ان ظهور عيسى روح الله ورسول الله وكلمة الله"بتعبير القران" من اجل ان نشرك جماعة عظيمة من الناس ويعتقدون بمقولة التثليث ويبتعدون عن جادة الهداية والصواب ويتحركون على مستوى تحريف كتاب الله وكلام نبيه؟ فهل ان عيسى بهذا الاعتبار مضل ام هاد؟ هل انه رسول الشيطان ام ان رسول الله الرحمن الرحيم؟....ان هذه الملاحظات البديهية تدفع بالانسان الى توسعة دائرة الهداية والسعادة ليرى كيد الشيطان ضعيفا كما يقول القران ويعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية).

تقوم روح المبنى السادس على اساس الاستناد الى اسم (الهادي) لله تعالى ويتلخص مضمون هذا المبنى في ان اطلاق اسم الهداية على طائفة او مذهب بعينه مع ان تلك الطائفة وهذا المذهب لايعدوان ان يشكلا القلة القليلة للبشرية في نهاية المطاف يمنع تجسد معالم الهداية الالهية على ارض الواقع وهو امر يقود بالتالي الى عدم تجلي اسم الهادي على مستوى الخارجالامر الذي يساوق القول بفشل الخطة الالهية وعدم نجاح الانبياء في مهامهم الالهية ومن هنا فعلينا توسعة دائرة الهداية والسعادة لنعتقد بان للاخرين نصيبا من النجاة والسعادة والحقانية وهذه هي روح التعددية.


نصل الان الى المبنى السابع الذي يتخلص في عدم الخلوص في امور العالم اذ لايوجد لدينا حق خالص ولاباطل خالص والا فلايعقل ان يتحرك انسان باتجاه الباطل تاركا الحق وراء ظهره والذي ينبغي ان يكون واضحا ان الحديث لايتمحور هنا حول اصل الاديان وانها عين الحق بل في فهم الناس وفي ظاهرة المذاهب الدينية المتعددةوالتي تحتوي دائما على مقدار من الحق والباطل وتجدر الاشارة الى ان هذا الخلل امتد الى الدين نفسه متمثلا بالسنة بعد شيوع ظاهرة الجعل والاختلاق في في الحديث الشريف.

البمنى السابع يعبد الطريق الى المبنى الثامن فبعد الايمان بعدم خلوص الحقائق وانحصارها في اتباع دين بعين دون اخر فان هذا يحتم على الاتباع ان يزنوا حقانية مالديهم وعرضه على حقائق الاخرين وهذا بدوره مترتب على الايمان بوجود حقائق لدى الاخرين الامر الذي يقود الى قبول التعددية الدينية.

يسجل سروش في المبنى التاسع ضرورة الايمان بالتعددية الثقافية والاخلاقية بعد التعارض القيمي والاخلاقي ومع هذا الايمان فلايبقى بون شاسع يفصلنا عن التعددية الدينية.

واخيرا يميز الدكتور سروش بين نوعين من التدين :تدين قائم على اساس الدليل واخر قائم على اساس العلة ويقصد بالثاني ذلك الايمان الموروث وليد الاطر الاجتماعية والبيئية واكثر المتدينين من النوع الثاني لذا تراهم يعيشون حالة اليقين والجزم بينما النوع الاول والقائم على اساس الدليل لايصل بصاحبه الى اليقين لذا فهو يؤسس الى بلوارية متكأة على الظن وهذا يؤدي دورا مهما في تقليل حد الجزمية والتعصب المذهبي لاننا اساسا لانعلم يقينا لمن الحق ومن يكون رأيه مصيبا لذا فاننا نحترم الجميع ولانعمل على الغاء الاخر واخراجه من حلبة السباق وهذا مايصطلح عليه ب"البلوارية الابستمولوجية".

هذه كانت روح المباني التي اعتمد عليها الدكتور سروش في تاصيل مقولة البلورالية القائمة على اساس تعدد الاديان تبعا لمعطيات ذاتية وموضوعية ترتبط بالقارء"الانسان" والمقروء"الواقع" وحان الان موعد تسليط الضوء على حقانية هذه المباني ومحلها من الصدق والموضوعية.


ان الملاحظة العامة التي يمكن ايرادها على جميع المباني التي حاول سروش تأسيسها والاستعانة بها لتثبيت المقولة سالفة الذكر" و التي اتصور ان الدكتور معنيا وبدرجة كبيرة في استجلاء كنهها وبيان غيابها" تتلخص في سكوت الاديان نفسها عن بيان النتيجة الموضوعية المترتبة على مباني الدكتور سروش ورصيدها من القبول او الرفض وانا هنا اتحدث عن التعددية بالمعنى الذي يطرحه سروش.
انه من الغريب حقا ان يكون الفهم البشري في مجمله قائما بالضد تماما مما يؤسس له الدكتور سروش ويحاول اثباته لاسيما في عصر الاديان ومع هذا لاتنطق تلك الاديان ببنت شفتة معبرة عن رفضها لطريقة تعاطي البشر مع مقولات الحقانية والهداية والضلال وغيرها!!

لقد قالوا في اصول الفقه ان استكشاف موافقة الشارع المقدس لطريقة العقلاء ورضاه بما انعقدت عليه طريقتهم لايتطلب اكثر من السكوت على ممارساتهم العقلانية التي هي على مرمى حجر منه بخلافه فيما اذا كان بالضد من هذه الطريقة فان عليه ان يبين طريقه الخاص في التعاطي مع مجمل المفاهيم الامر الذي يقود الى تنبيه العقلاء انفسهم على بطلان طريقتهم وعدم اعتماد سيرتهم لانه تعاكس طريق الدين وتخالف منهجه, وقد اضيف الى ذلك انه كلما كانت طريقة العقلاء التي يفترض انها خلاف طريقة الشارع الاقدس متجذرة في واقع الناس ووجدانهم تعيّن النهي عنها بمقدار قوة ذلك التجذر ولايكتفى بمعالجات سطحية قد لاتشكل بمجموعها رادعا يمكنه قلع جذور هذا العادات المستحكمة, ومن هنا فاننا ندعي ان تعاطي العقلاء وعلى طول الخط مع مقولات الهداية والضلال والحقانية كان قائما وبالضد مما يؤسس له الدكتور سروش ويكفي ان تراجع تاريخ البشرية لتقطع بما نقول وعلى هذا يطرح السؤال المهم عن السبب الرئيسي وراء سكوت الاديان عن جهالات الناس المفترضة ولقرون متمادية مع ان هذا السكوت قد جر اقرارا على ماهم عليه من مفاهيم ادت بالنهاية الى اشكال دموية من التصارع والتطاحن والاقتتال والتكفير؟؟؟


واذا اضفت الى ذك:سيرة المتشرعة" بماهي سلوك عام للمتدينين وعلى طول الخط فان الامر سيصبح اكثر وضوحا في التدليل على ماندعيه .

لايقال: ان ماذكرتموه من سيرة العقلاء فضلا عن سيرة المتشرعة انما له مسيس ارتباط والتصاق بالجنبة العملية لان موضوعه هو السلوك العملي بينما نظرية سروش تتصل بالمفاهيم النظرية واين هذا من ذاك؟؟

فانه يقال: ان لكلا النظريتين سواء الانحصارية الدينية او التعددية الدينية نتائج نظرية تتفرع عنها معطيات عملية سلوكية كالهداية والضلالة والايمان والكفر والولاء والنصب وغيرها كثير وهذه كلها مشمولة لكلا السيرتين فليكن نفينا للتعددية من باب نفي الملزوم بنفي لازمه على اقل تقدير.

اننا نعتقد ان الامر سيكون اكثر حراجة للدكتور سروش الذي يعتقد بحقانية الاديان من حيث اصلها ومن حيث مجموعها لا عندما نلاحظ خلو هذه الاديان نفسها من شواهد ومؤيدات لفكرة الدكتور بل عندما نجد ان هذه الاديان نفسها تؤيد مااسماه ب"الانحصارية الدينية" ومايترتب عليها من وحدة الحق والهداية وماسواها من مفاهيم الامر الذي دفع سروش الى التماس مقولات صوفية ونظريات عرفانية غير مبرهنة في اعمها كي يستعين بها على مدعياته, والغريب ان اكثر مبانية من سنخ دعوات المتصوفيين التي لم تبرهن بعد ولم يعرف حضها من الحق او الباطل.



نطالع في القران الكريم نوعين من الايات: نوع يثبت انحصارية الدين في دين واحد, ونوع اخر يضلل كل من لم يلتزم بهذا الدين ويحكم عليهم بعنوانات مختلفة من قبيل الشرك والضلال والكفر وغير ذلك , والايات المتصلة بالنوع الاول كثيرة من قبيل:


إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .. آل عمران 19{


وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .. أل عمران 64 .


قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .. الأنعام 161

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (الانعام 153)

( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)

وغير ذلك.


بل ان القران الكريم يحكي ذلك عن اتباع الدينيين الاخرين"اليهود والنصارى" في اكثر من اية:

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ..

وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون


"وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم عن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وفي النوع الثاني نطالع ايات من قبيل:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ }

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
- (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم)، (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم)





ان اقصى ماتثبته نظرية القبض والبسط "القائم عليها المبنى الاول " هو ديناميكية الفهم وصيرورته بعد قابلية النص لقراءات متعددة فضلا عن طبيعة الجهاز الادراكي الانساني المتاثر بالظروف البيئية والتربوية وغيرها من ظروف تلقي بظلالها لامحالة على تعاطينا مع النصوص الدينية, ان هذا شيئا متفهما ومعقولا ولكن جعل ذلك مدعاة للتعددية الدينية امر غير واضح المستند اذ اقصى مايقال بما انكم امنتم بتعدد الواقع وانه ذو بطون متعددة وهكذا امنتم بتعدد معنى النص الديني واختلاف الجهاز الادراكي البشري فهذا يحتم عليكم فسح المجال للتعددية الدينية لانها النتيجة المنطقية للقول بالمقدمات التي ذكرناها قبل قليل, الا اننا نتحفظ على هذه النتيجة التي افرزتها نظرية القبض والبسط ويمكن ان نسجل تحفظنا في اكثر من ملاحظة:

الملاحظة الاولى: ماذكرناه قبل قليل من سكوت الاديان عن نقد هذه الظاهرة المتجذرة مع ان الضرورة داعية الى تنبيه اتباعها الى خطأ سلوكهم المتفرع على فهم الانحصارية فضلا عن وحدانية الواقع بل سجلنا قبل قليل ان الدين ليس ساكتا فحسب وانما داعم لهذه الظاهرة وبقوة.


الملاحظة الثانية : اننا وان سلمنا بتعدد الافهام وبقابلية النص الديني لاكثر من قراءة بيد ان ذلك لايعني استنطاق النص واستجلاء الواقع بمعزل عن قوانين اللغة وانظمتها ومعرفة نظام استعمال الالفاظ والدلالات وهكذا قانون التخاطب فضلا عن المنطق الخاص للغة العربية والذي هو من خصائصها وميزاتها الحصرية ومن هنا فاننا نرى انفسنا مجبرين على التعاطي مع الظهورات العرفية والدلات النصية فضلا عن مجمل قوانيين التخاطب بعد ان كان ذلك من الامور التي اقرنا عليها الدين نفسه باعتبار ان العرف قائم اساسا في مقام التفاهم على انتهاج الوسائل اللغوية المعهودة في تحديد مراداته ولو كان للدين طريق اخر لهدانا اليه ولنهانا عن طريقتنا المعهودة ومن البين ان التسليم بماذكرنا يفضي الى نفي التعددية السروشية .


الملاحظة الثالثة: ان اصل التعدد السروشي مبني على تعدد الواقع المولد بدوره للتعدد على مستوى الكلام الا ان هذا الامر لايجري على اطلاقه في جميع الظروف والملابسات اذ من البين انه وفي بعض الفروض لايمكن احتمال التعدد اصلا كما في التعدد المستلزم لتناقض الواقع فعلى هذا لو قبلنا بما ذكره سروش من تعدد فلابد ان يقبل في غير فرض التناقض المذكور بعد الحكم باستحالة ان تكون مجموعة من المذاهب كلها على حق رغم تناقضها البين.

ان ماذكره الدكتور سروش في مقدمة كتابه الصراطات المستقيمة توحي بان الرجل كان ملتفتا لهذا اللازم الباطل لذا حاول ان يجيب عنه قائلا:"لعل الحقيقة الدينية الى درجة من الغموض والابهام ان الذهن واللسان يقعان في دوامة التناقض".

وهذا الجواب غريب حقا اذا المفروض ان الانبياء هم المستوعب الاول للحقيقة الدينية على مستوى الذهن والمعبر الاصيل عنها على مستوى اللسان فما معنى وقوعهم في دوامة التناقض؟؟ واي تغرير سيصيب الناس اذا كان سفراء الله الى خلقه يستوعبون الحقيقة الدينية ويعبرون عنها بما يوحي بتناقضهم ذهنا ولسانا؟؟!!!

لقد قالوا في علم الكلام :ان الاختلاف بين اي مرحلة من مراحل الوحي يؤدي الى نقض الغرض الالهي الامر الذي يستدعي وصول الواقع كما هو ولاغرو في مال كلام الدكتور سروش الى نقض الغرض بعد ايمانه بان التعابير النبوية عن الحقيقة الالهية انما هي من عنديات الانبياء انفسهم لذا اختلفوا ايما اختلاف فيها بعد تباين درجاتهم واختلاف مستوياتهم كما يوضحه في قوله:( فالتجربة الدينية عبارة عن مواجهة الامر المطلق والمتعالي وهذه المواجهة تتجلى باشكال عديدة وصور مختلفة فتارة بصورة رؤيا واخرى بسماع صوت معين وثالثة برؤية ملامح والوان ورابعة على شكل احساس باتصال النفس بعظمة عالم الوجود.....وعلى اي حال فالاصرار على معرفة حقيقية الصوت الذي اسمعه وماهو مصدره او على ماذا تدل حالة الكشف التي احسست بها في قلبي ومن اين جاءت وبيان كل ذلك على شكل الفاظ وفي قالب المفاهيم((والتي تكون متناقضة احيانا)) هو عين الورود الى ميدان التفسير بل ان نفس بيان التجارب المعنوية باللسان وصياغتها على شكل مفاهيم هو نحو من انحاء تفسيرها وهذه التفاسير متفاوتة ومختلفة كثيرا....ان كافة الاديان بدورها مسبوقة بحالة الكشف والتجربة الغيبية والقدسية والوحدانية التي عاشها الانبياء....) كما انه يقول في مكان اخر:(....وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود).


واضح ان هذا النوع من التفكير السروشي يجعل ملاك التعدد الديني راجع الى اختلاف التجربة المعنوية التي يعيشها الانبياء في حين ان المعارف الحقيقية التي تتصل بالمبدأ الحق في عمومياتها واكثر تفاصيلها لا تنحصر في هذا الطريق ولاتحدد به حتى يرجع كل الاختلاف الحاصل بين الاديان اليها وذلك للحكم القطعي باستقلال العقل في ادراكها واقامة الادلة والشواهد عليها وكل التجارب الدينية انما تأتي مؤيدة لذلك الحكم العقلي السابق بل ان العقل هو الفيصل في قبول التجربة التي تنسجم مع حكمه ورفض التي لاتنسجم معه ومن هنا يكون الدكتور سروش مطالبا بتفسير اختلاف الاديان حد التناقض في المقولة الالهية مع افتراض استنادها جميعا الى دليل العقل وكيف يمكن التعبد بفهم ديني عن الذات الالهية المقدسة وصفاتها يناقض حكم العقل الضروري؟ ومن البين ان كل مباني البلوارية التي ذكرها لاتصلح جوابا عن ذلك.



ولايفوتنا ان نذكر هنا ان سروش في مقطوعته هذه يتجاوز السبب الرئيسي لتعدد الفهم واختلافه وانا هنا اتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا بطون متعددة ويستعيظ عنه بغموض الحقيقة الدينية التي تساوق الواقع!

واخيرا لابد من القول اننا قد نتفهم اختلاف تجليات الذات الالهية لكل نبي من الانبياء ونتفهم ايضا سر الاختلاف فيما بينهم الا ان هذا الاختلاف يبنغي ان يكون مقتصرا على المعارف الحقيقية المرتبطة بالحق وصفاته وهي غاية الكشف والشهود كما انها موضوع التجلي الالهي وعلى هذا يكون التعليل السروشي محددا بالاختلاف على مستوى الحقيقة الالهية فقط ولايشمل مفردات الدين الاخرى ومن الواضح ان حقيقة الدين ليست هي الحقيقية الالهية فحسب ومن هنا لايصلح السبب الروشي جوابا عن سر اختلاف الاديان خارج اطار الحقيقية الالهية.


قد يعترض علينا معترض فيقول: ان مقولة البلوارية الدينية تحاول قراءة الدين من الخارج في حين انكم تردون عليها من داخل الدين, وبعبارة اخرى: ان سروش يؤصل مباني بلواريته انطلاقا من المساحة التي تقع خارج الدين وعليه ينبغي لكم ان تحاكموه من نفس تلك الدائرة لا ان تنطلقوا الى ذلك من نفس الدين.

وفي صدد الاجابة عن ذلك نقول:
ان الدكتور سروش لم يلغ حقانية الدين بل وسع مقولة الحقانية نفسها لتشمل الاديان جميعا فضلا عن ان اكثر مباني البلوارية الدينية متفرعة على حقانية الاديان بعد اعتمادها على نظريات عرفانية ومقولات صوفية وهكذا شواهد تفسيرية وروائية ومن هنا صح لنا ان نحاكم مقولاته وفقا لرؤى الدين ومفاهيمه والا كانت معظم مبانيه التي هي اساس مقولة التعددية مقولات جدلية الزامية لمن يؤمن بها لااكثر.



الملاحظة الرابعة: ان الدكتور سروش وفي مقام شرح اسباب وعلل القول بالتعدديه الدينية يذكر ان هذا التعدد هو مقتضى الجهاز الادراكي للانسان لذا رأيناه في مقولة الارتداد يأخذ على الفقهاء عدم الالتفات الى هذه النقطة التي قد تكون سببا في تنوع الفهم المؤدي بالتالي الى الارتداد عن الدين ولانعرف لماذا خصص كلامه هنا في اتباع الاديان والاختلاف الديني مع ان الملاك المذكور شامل حتى لغير الاتباع وللاختلاف الفكري الاعم من الاختلاف الديني ؟


الملاحظة الخامسة: ان هذه النظرية تتكأ على اصل موضوعي يتعامل معه الدكتور سروش تعامل المسلمات ونحن هنا نتحدث عن تعدد الواقع وكونه ذا ابعاد والوان كثيرة وهو امر يحتاج الى اقامة الادلة والشواهد عليه اذ من قال ان الواقع بهذه الكيفية التي صورها الدكتور؟؟ وهذا مانزعم ان سروش لم يات بشيئ فيه اللهم الا ماذكره عن نظرية بطون القران التي اقصى ماتفيد بحسب بعض الاصوليين :
"كون اللفظ قابلا للانطباق على معاني متعددة لانه موضوع للكلي الذي يعم جميع المعاني تلك المعاني التي هي بمثابة افراد وتطبيقات لذلك الكلي" 

و من المعلوم ان الاندراج تحت الكلي يلزم منه جهة اتحاد بين الافراد المندرجة فضلا عن جهة اختلاف وبيّن ان التعددية الدينية قد تلازم القول بتباين الحقائق حد التناقض بصورة لايوجد بينها اي جهة اتحاد واشتراك ومن هنا لانرى صلاحية نظرية بطون القران الكريم كدليل على مدعياة سروش كما ان الاستدلال بتعدد التجربة واختلاف الافهام على ذلك ربما يوحي بالدور الصريح.

الغريب ان سروش يرجع ظاهرة الاختلاف الاديان الى تعدد واقع الحقيقة الدينية وتبايين شخصيات الانبياء واختلاف ادراكاتهم نافيا في الوقت ذاته وبلغة جزمية متسرعة اي دخالة للظروف الاجتماعية والمصلحية في ذلك لذا نراه يصرح في هذا الصدد قائلا:(وعلى هذا الاساس فان السر في اختلاف الاديان لايكمن في الظروف الاجتماعية او التحريف الذي طرأ على الاديان واستلزم ظهور دين اخر بل بسبب التجليات المختلفة لله تعالى في عالم الوجود فكما ان عالم التكوين متنوع فكذلك عام التشريع متنوع ايضا.....فكل واحد من الانبياء وبمقدار ماادركه في وجدانه من حقيقة الالوهية عرضها لقومه بهذه الكيفية فالاقتباس من هذه الحقيقة متفاوت لان شخصية الانبياء متفاوتة...).

لوكان الدكتور يتحدث عن واقع الاديان بغض النظر عن الملابسات البعدية التي لصقت بها لسبب واخر لهان الخطب الا اننا وبقرينة نفيه لسببية الوقائع الاجتماية وغيرها نجد انفسنا مضطرين لحمل كلامه على الاديان في طور حركتها الاجتماعية التأريخية ومعه فلامبرر لحصر سبب التفاوت الديني فيما ذكر بعد كونه ادعاء غير مدلل ومبتن اساسا على دعوى سبق ان قلنا فيها قبل قليل انها بلا شواهد وادلة فضلا عن تخالفها مع الاديان نفسها التي ترى ان البشر اعمل ثقافته ومصالحه في مفاهيم الدين وتعاليمه مما ولد انحرافا وتحريفا وهذا مانجده في اكثر من مستند ديني:

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27


وقبل ان نغادر هذا النقطة يطالعنا سؤال ملح عن حقيقة الدين وجوهره في فلسفة سروش فاذا كان الواقع متعددا وذا ابعاد واذا كانت التجربة النبوية لاتدرك الا لونا واحدا وبعدا فاردا واذا كانت التفسيرات تتسم بالنسبية بعد اتكائها على الحقيقة ذات الالوان والابعاد فاين الدين وحقيقته في خضم هذه المعمعة؟؟؟
في ضوء هذا كله لانجد انفسنا مجانفين الصواب اذا قلنا ان الطريق اصبح معبدا للقول بنسبية الحقائق الدينية.



في المباني ذات التسلسل الثالث والرابع والخامس يحاول سروش الاستعانة على مطلوبه بمقولات عرفانية وصوفية كشفية يمكن ان تشكل دعامة لمتدعياته ونحن لانريد ان نبخس حق العرفان ونسقط حجيته بالكلية وبالتالي تجريد سروش من اقوى اسلحته بقدر مانريد التحفظ على استحضار هكذا مقارباته هي اقرب للمذاق الصوفي منها للبرهان الفلسفي الكلامي في مقام ليس فيه للمذاقات والكشفيات غير المبرهنة محل ومن هنا كان اللازم على الدكتور ألا يتعاطى مع التجربة الصوفية الكشفية تعاطي المسلمات ويتعامل معها على اساس انها نقطة مفروغ عن البحث في حقانيتها وصدقها مع اننا نخال ان الدكتور يعلم ان كشف غير المعصوم ليس بحجة ولايتعد به مالم يقم عليه دليل رصين, وعلى هذا الاساس يمكن اعتبار المقولات السالفة مؤيدات لطروحة الدكتور اكثر مما هي مباني مستقلة بعد قصورها الدليلي الواضح.


في المبنى السادس يطالعنا استناد سروش الى اسم الله الهادي وبوسع المرء ان يزعم ان كلامه هنا يحوي تشابها في اكثره مع ذكره الشهيد مطهري-قد- في موضوع عمل الخير من غير المسلم في الفصل الثامن من كتابه القيم"العدل الالهي" , هناك يطرح مطهري الايمان المدلل والمعلل الذين ذكرهما سروش بعنوان الاسلام الواقعي والجغرافي ويصوغ استنتاجا عن الاقلية الناجية التي اسماها سروش بالشرذمة كا يذكر مطهري ان لازم قول المتشددين هو اسبقية غضب الله على رحمته تلك الفكرة التي يذكر سروش قريبا منها بعنوان فشل الخطة الالهية.


يذكر مطهري طرازين من التفكير يرتبطان بعمل الخير من غير المسلم قائم احدهما على الافراط والاخر على التفريط ثم يعالجهما بموضوعيته المعهودة فيخرج بطراز ثالث ومما جاء فيه: ان الكفر على نوعين: كفر على سبيل العناد والجدال ويسمى بكفر الجحود وكفر عن جهالة وعدم معرفة بالحقيقة ويؤكد ان الادلة القطعية تثبت ان الشخص العالم والمطلع على الحقيقة ومع ذلك يعاندها وينكرها فهو مستحق للعقوبة بخلاف الكفر من النوع الثاني فلابد من القول ان الجهالة وعدم المعرفة الناتجة عن غير تقصير من المكلف فهي تقع موقع عفو الله ورحمته مشيرا في الوقت ذاته الى عدم امتلاك الاسلام والكفر الجغرافيين اي قيمة للحكم بكون فلان مسلما او كافرا وهو في ذلك يقولفي ص325"فلو ان انسانا يتمتع بصفة التسليم للحقيقة ولكنه لعلل اخرى لم يهتد الى حقيقية الاسلام فهو لايكون حينئذ مقصرا والله سبحانه لايعذبه وانما هو من الناجين حيث يقول سبحانه:((وماكنا معذبين حتى نبعث رسولا)) اي من المستحيل ان يعذب الله انسانا دون ان تكون الحجة عليه تامة, وعلماء الاصول يصطلحون على مفاد هذه الاية المؤيدة لحكم العقل باصطلاح((قبح العقاب بلا بيان)) ومعناه ان الله سبحانه اذا لم يبين الحقيقية كاملة لعباده فمن القبيح ان ينزل بهم عقابه, ولو بحثنا عن مثال لهذه الحقيقة فمن الممكن ان نجد افرادا يملكون ارواحا مستسلمة للحق وان لم يكن لها اسم الاسلام ...) ولايفوت الشيخ مطهري ان يستشهد بكلام استاذه العلامة الطباطبائي-قد- عندما يتحدث عن مفهوم الاستضعاف الذي هو ملاك تام لعفو الله ورحمته فقد جاء فيه فقرة ترتبط بما نحن فيه في ص370(....كذلك يتحقق_معنى الاستضعاف_ في من لم ينتقل ذهنه الى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره اليه مع كونه ممن لايعاند الحق ولايستكبر عنه اصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيئ من العوامل المختلفة الموجبة لذلك).

وينبغي ان يكون واضحا ان نقطة الاختلاف المحورية بين مطهري وسروش هو ان توسيع الاخير لمقولة الهداية الالهية بحيث تشمل الاعم الاغلب من البشر وفق مبررات ذكرناها في بداية البحث الامر الذي لايظهر من مطهري الموافقة عليه وربما يكون ماذكره سروش خلطا بين الهداية والنجاة اذ ان مفهوم الهداية يستبطن وجود شيئ محدد يكون مهديا اليه ومضلولا عنه يكون هو الفيصل في معرفة الهداية من الضلالة ويسمى من عرفه مهتديا ومن لم يعرفه ضالا بقطع النظر عن المعذورية من عدمها في عدم المعرفة هذا , تلك المعذرية التي تكون ملاكا تاما للنجاة من المؤاخذة الالهية وللفوز بالنجاة الاخروية لا ان تكون ملاكا للهداية, وفي عقيدتي ان قول سروش هذا مبتن على القول بتعدد الحقيقية وتوزعها بين اطراف شتى اكثر من اعتمادها على اسم الله الهادي وان كان هو يصرح بخلاف هذا.


ان دليل اللطف الذي يحاول الدكتور سروش اقحامه في هذه النقطة لايصلح مبررا للقول بشمولية الهداية لغالبية الناس لانه وبكلا معنيه (المحصل والمقرب) لايعني الجاء الناس وقسرهم على الايمان بقدر مايعني فعل مايقرب الى الهداية ويبعد عن الضلالة وهو امر قد يجتمع مع اختيار اكثر الناس للضلال على الهدى وهذا ماسجله تأريخ الانبياء وجولات صراعهم مع طواغيت زمانهم وعلى هذا الاساس نقرأ كثيرا من الايات القرانية التي تؤكد هذه الحقيقة:


حتى اذا جاء امرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول ومن امن وما امن معه الا قليل.

قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}


أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون

بل ان المفهوم من الخطاب القراني كون عدم الايمان هو السمة البارزة لاكثر الناس وعلى طول الخط:

يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}

الم اعهد لكم يابني ان لاتعبدوا الشيطان وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد اضل منكم جبلا كثيرا افلم تكونوا تعقلون.

(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)


وغير ذلك كثير.
وعلى هذا فان سروش مطالب بتبرير منطقي لاجتماع الضلال والغواية مع وجود السفراء الالهيين وحتى قبل مبررات الاختلاف التي يذكرها من تباين الافهام وبشرية الدين وتفسير التجربة وغيرها وكيف صارت الاكثرية الساحقة من البشر في عصر النبوات من اهل الانحراف؟؟ واين اسم الله الهادي الذي اعتمد عليه في مبناه السادس؟؟؟



نحن نضم صوتنا الى صوت الدكتور سروش (في المبنى السابع والثامن) الداعي الى ضرورة وزن المعارف المذهبية والدينية بميزان الحق وعرضها على مايفترض صحته وحقانيته حتى لو قلنا بمقالته من عدم الخلوص والنقاء في عالم الطبيعة والشريعة بعد الايمان بما اسماه بشرية الدين الموجب لاختلاط الدين بافرازات الذهن البشري فان هذا كله لايعدم وجود مقياس صحيح وميزان موضوعي توزن به الحقائق وتقاس به المعارف نظير كل الحقائق والمعارف الثقافية الاخرى سواء قلنا باعتماده اليقين او الظن فان المشاهد ان الحال واحد من الناحية العملية سواء في المعارف النظرية او الطبيعية وهذا امر لاينكره سروش نفسه كما في قوله في ص210 من الدين العلماني:( ان المعرفة الدينية قابلة للنقد بمقدار ماعليه المعرفة العلمية ومرجعية الدين تكون مقبولة بمقدار ماتكون مرجعية العلوم الطبيعية مقبولة والقبض والبسط في المعرفة العلمية يساوق ويوازي القبض والبسط في المعرفة الدينية...... فصحيح ان المجتمع الليبرالي قائم على هذه المباني الفكرية ولكن في دائرة العمل من خلال عملية النقد والتحليل المستمر تكاملت الرؤية الليبرالية بالنسبة الى الدين والعلم بحيث لايمكن السماح بعدها بتجاوز بعض المبادئ والاسس التي تقوم عليها الحداثة ) وكيف كان فلو لم نقل بذلك فلن نصل والحالة هذه الى مقولة حق وصدق ولصرنا مقسورين على الايمان بنسبية الحق والباطل تلك المقولة التي يرفضها سروش نفسه.


ولايفوتنا ان نسجل هنا اكثر من نقطة:

الاولى: انه وبناء على توجيه سروش لظاهرة اختلاف الاديان تبعا لاختلاف شخصيات الانبياء وتباين ادراكاتهم فان مرحلة بشرية الدين تبدأ من هذه النقطة اي قبل وصول الوحي الالهي للناس.

الثانية: ان سروش يعترف بجريان القبض والبسط حتى على المعارف الطبيعية تماما كجريانها في المعارف الدينية لكنه يعلل عدم تجاوز بعض اسس الحداثة بتعدد عملية النقد والتحليل المؤدية الى تكامل الرؤية الليبرالية بالنسبة للدين والعلم ومن هنا فلماذا لايجري هذا الامر بالضبط في المعارف الدينية اليقينيةالضرورية على نحو لايسمح بتجاوز بعض الاسس الضرورية التي تقوم عليها الاديان تبعا لعملية النقد والتحليل المؤدين الى التكامل المعرفي ؟؟





الغريب في المبنى الاخير ان سروش يجعل الايمان الدليلي المبتني على معطيات علم الكلام ذريعة للقول بالتعددية الدينية باعتبار ان نتائج علم الكلام نتائج ظنية لاترقى الى مستوى الجزم واليقين وهو هنا يأخذ على المحنى الصوفي اتجاهه الجزمي باعتبار ابتناءه على الكشف والشهود ونقطة الغرابة ان سروش نفسه يستفيد في اشادة مباني بلواريته من المعطيات العرفانية الكشفية كما رأينا وهي قائمة باعترافه على القطع واليقين الشهودي فكيف يحاول هنا ان ينسف ما بناه سابقا؟؟!!!