الكاتب: العلامة المنار
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}(الأنفال/31).
وهذا البحثُ يأتي استجابةً لرغبةِ المرجعيةِ المباركة ، حيثُ ندبتْ مثقفي الشيعةِ لتصحيح مسارِ الفكرِ الخاطئ ولتعليم المتورطينَ بهذه الأفكارِ مواطنَ الخللِ فيها لعلهم ِيهتدون والله الموفق .
قبلَ كلِ شيءٍ نحنُ نُناقشُ منْ يتّبعُ الحداثويةَ في تفسيرِ النصِ الديني ، وليس لنا دخلٌ بالحداثوية في تفسيرِ النصِ الأدبي . وهذا اعتذارٌ مسبقٌ للذين قد يرونَ أنهم حداثيون أدبياً ، فالحديث لا يخصُهم من قريبٍ أو بعيدٍ.
نقرأُ أولاً في كتابِ (قراءةٌ بشريةٌ للدينِ للدكتور محمد مجتهد شبستري) منْ اجلِ بيانِ خطورةِ مقولات هذا الفكرِ على المجتمعِ الإسلامي:
(قراءةٌ بشريةٌ للدينِ) للدكتور محمد مجتهد شبستري - صفحة: 233
[ومنَ الواضحِ أننا لو تبنينا هذا الاتجاه فإنَ الكلامَ الوحياني الذي نقلهُ النبيُ للناسِ يصبحُ كلامَ ذلكَ الإنسانِ النبي الذي يتميزُ بتأييدِ الإرادةِ الإلهيةِ لهُ. وفي هذهِ الصورةِ وبما أن هذا الكلامَ هو كلامُ بشرٍ فسوف يكونُ من الممكنِ فهمُهُ من خلالِ المعاييرِ الموجودةِ لفهمِ كلامِ الإنسان.
ولكن على أيِّ حالٍ فإنَ الأوامرَ والنواهيَ المتعاليةَ على التاريخِ (عدمُ التحديدِ بزمنٍ) لا يمكنُ تصوّرُها في هذا الكلامِ لأن فعلِ الأمرِ والنهي وكذلك جميعِ أفرادِ البشرِ ومنهم الإنسانُ النبيُ هم موجوداتٌ تاريخيةٌ ولا يمكنُ أن تكونَ أوامرُهم ونواهيهم متعاليةً على التاريخِ .
وعلى أساسِ هذا المبنى (كما ذهبَ إليه بعضُ الفلاسفةِ المسلمين) فالمشرّعُ الإسلاميُ سيكونُ هو النبيُ نفسهُ المؤيدُ منْ عندِ الله . وينبغي القولُ إن الأوامرَ والنواهي القرآنية النبوية في بابِ السياساتِ والمعاملاتِ تدخلُ دائرةَ الزمانِ والمكانِ (أي إنها تاريخية) إنما المخاطبين لها مجموعةٌ خاصةٌ من الناسِ ولها أغراضٌ خاصةٌ وهي نتاجُ مجتمعٍ بشريٍ معين ولا تشملُ هذا العصرَ وليس لها خلودٌ وشموليةٌ زمانيةٌ ومكانيةٌ ، وإن شموليةَ تلك الأوامرِ والنواهي تنحصرُ فقط في جهتِها الكليةِ وهي عبارةٌ عن (مراعاةِ العدالةِ) .]
قراءةٌ بشريةٌ للدينِ - صفحة: 235
[وقد قامَ النبيُ بعمليةِ الإصلاحِ الأخلاقي بما يتناسبُ مع القيمِ والمعاييرِ الأخلاقيةِ الموجودةِ في ذلك العصرِ ، وعلى هذا الأساسِ فإن الإصلاحاتِ الأخلاقيةِ والحقوقيةِ لنبي الإسلامِ كانت في حدودِ ثقافةَ ذلك العصرِ المبتنيةِ على النظامِ الأسريِ وعلى مقولةِ سيادةِ الرجلِ ، ورغم إن هذه الإصلاحات كانت تصبُ في صالحِ المرأةِ إلا أنها مع ذلك لم تعملْ على إزالةِ هذا النظامَ الأسريِ بنظامٍ آخرَ.
وهكذا الحالَ بالنسبةِ لإصلاحاتِ النبيِّ في حقلِ النظامِ السياسيِ فقدْ كانتْ تصبُ في مصلحةِ الرعيةِ ولكنها لم تهدفْ إلى تغييرِ النظامِ السياسيِ وإزالتهِ.]
قراءةٌ بشريةٌ للدينِ - صفحة: 15
[و بما أنَ الفرضياتِ مختلفةً باختلافِ الرؤى و المفروضاتِ المسبقةِ فان المعنى المتعينِ للنصِ سيكونُ مختلفاً من شخصٍ لاخرَ , و كلُ واحدٍ منهم يفهمُ من النصِ معنىً خاصاً , و في هذا الفضاءِ فإن المعنى المقبولَ من هذه المعاني المتعددةِ هو المعنى الذي يملكُ ادلةً اقوى , إذنْ فماهيةُ الفهمِ و تفسيرُ النصِ تعكسُ في حقيقتِها فرضياتٍ مقترنةً مع عمليةِ الاستدلالِ و لا يمكنُ القطعُ بتوصلِ احدِ هذه الفهومِ للمعنى الواقعي ]
قراءةٌ بشريةٌ للدينِ - صفحة: 18
[ان افتراضَ وجودِ معانٍ مجازيةٍ و باطنيةٍ و رمزيةٍ للنصوصِ المقدسةِ بدأ عندما أرادَ المفسرونَ صياغةَ النصوصِ ((الاسطوريةِ)) بصياغةٍ (( معقولةٍ )) و ((أخلاقيةٍ )) و قد بدأَ هذا العملُ قبلَ اليهوديةِ و المسيحيةِ و الاسلامِ , وفي هذه الأديانِ أيضا إتبعَ المفسرون هذه المنهجية في التفسير و قرروا وجودَ معانٍ مجازيةٍ او باطنيةٍ أو رمزيةٍ للنصوصِ هرباً من الوقوعِ في مأزقِ اللاعقلانيةِ الظاهرةِ في بعضِ الآياتِ أو الفرارِ من ضيقِ القواعدِ و الأحكامِ الجزميةِ التي تتجلى أحياناً بشكلٍ غيرِ أخلاقي و أحياناً أخرى تكونُ ثقيلةً و غيرِ مقبولةٍ من قبلِ أصحابِ التسامحِ و التساهلِ في العقائد.]
بجولة واسعة بين عشرات الكتب الحداثوية وفهمها الديني ، يمكنُ تلخيصَ أهمِ دعاوى الحداثوية في فهم النص الديني بما يلي:
أولاً : تفسيرُ جوهرِ الدينِ بالتجربةِ العرفانية الشخصيةِ للنبي ’ وهي خاضعة لفهمه الشخصي .
ثانيا : عدمُ الفرقِ بين الأديانِ ، ولا يوجدُ حقٌ يقابلُ الباطلَ فكلاهُما نسبيانِ.
ثالثا: إن وجودَ اللهِ لا يقبلُ الاستدلالَ العقليَ ، ولا بدَ منْ تجربَته ، وهو غيرُ قابلٍ للتجربةِ ، فهوَ مجردُ فكرةٍ غيرُ مبرهنةٍ.
رابعاً: القرآنُ كتابٌ صامتٌ لا دلالةَ لألفاظهِ ولا تحصيلَ لمعانيهِ.
خامساً: تفسيرُ الخاتمية عندهم: هو بلوغُ البشرِ مرتبةَ الرقيِ المستغني عن الاحتياجِ للوحي، فالخاتميةُ هي وصولُ البشرِ لعدمِ الحاجةِ للوحي ، وقدْ بلغناهُ الآن بالتقدمِ الإنساني الملحوظِ.
سادسا : تعاليمُ الإسلامِ لا تتصفُ بالثباتِ والديمومةِ لأنَّ الأحكامَ هي اجتهادُ النبيِ بتجربَتِهِ الشخصيةِ .
سابعا: يجبُ إلغاءُ وتغييرُ الأحكامِ الضرورية الإسلامية الثابتةِ ، بحجةِ إنها أحكامٌ محاصرةٌ بالزمانِ والمكانِ وقد انتفتْ هذه الظروف .
ثامنا: إن ما يشرّعه الإنسانُ الحاليُ من أحكامٍ وضعيةٍ هو صحيحٌ ، وهو الدينُ المطلوبُ ، ومخالفةُ القرآنِ لهذه الإحكامِ الوضعيةِ المتطورةِ يعتبرُ إدانةً للقرآنِ وهو ما ينبغي هجره.
تاسعا: القرآنُ كتابُ أساطيرٍ لا تصلحُ للتصديقِ العقليِ . فالغيبياتُ والقصصُ التاريخيةِ كلُها أساطيرُ مرفوضةٌ.
عاشرا: القرآنُ كتابٌ لا يقاربُ العدالةِ فإنه يظلمٌ المرأةَ في الإرثِ ، ويظلمُ الكافرَ والفاسقَ في الشهادةِ . ويكرّسُ الإرهابَ لأنه يصفُ اللهَ بالجبارِ المتكبرِ، ويساعدُ على فكرةِ قتلِ الإنسانِ بحجةِ قتالِ الكفارِ المعتدينَ. فمنْ الخطأِ ، الرجوعُ إلى القرآنِ والسنةِ ، وإنما يجبُ الرجوعَ للعقلِ الإنساني لرفعِ الظلمِ الذي أحدثَه القرآنُ.
هذا بعضُ ما يطرحه الفكر الحداثوي ، وآخر ما توصلت إليه العبقرية الحداثوية ، وهو كما يرى أي منصف ، تهجمٌ صارخٌ على ديننا ومذهبنا ، ومن حقنا أن نبيّن موردَ الخطأ الذي وقع فيه هذا الفكرُ بعد هذا التهجم.
رأيتُ أن أناقش قضيةً واحدةً من طروحات الفكر الحداثوي ، وهي قضية (صحة القراءات المختلفة للدين) ، وأؤجل دراسة الأسس الفلسفية للهرمنيوتيكا التي هي عمود الفكر الحداثوي ، ومسألة التعددية الدينية ، ومسائل التفسير الحداثوي لنصوص القرآن ، فان هذه كلها مواضيع كبيرة ، ولعل بعض أجزاء موضوع القراءة المتعددة للدين اكبر من قراءته بندوة فكرية واحدة مثل مسألة الباطن والظاهر ، ومسألة الفرق بين الاجتهاد وفكرة القراءة المتعددة .
فلعلنا نتحمس جميعا ونستمر بهذه الندوات للتفاهم العلمي وظهور الحقيقة أمام الجماهير في عالمنا الإسلامي.
--------------------------
القراءةُ المتعددةُ للدينِ :
أولاً : ما معنى القراءاتِ المتعددةِ للدين ؟
تعني أن جميعَ القراءاتِ مهما كانتْ متعارضةً فهي صحيحةٌ وكلُها صوابٌ ، ولا ينبغي التمايزُ على أساسِها ، وليس معناها : إثباتُ وجودِ قراءاتٍ متعددةٍ للدين فقط، فهذا لا إشكالَ عليه ، بل يرادُ منها أنها كلُها صحيحةٌ ولا يوجدُ فرقٌ بينَ حقِها وباطلِها .
القراءاتُ المتعددةُ للدينِ موجودةٌ بالفعلِ في الفكر الإسلامي وهي مشكلةٌ طويلةٌ عريضةٌ، والفكرُ الشيعي له ميزاتٌ وبصماتٌ في تلك القراءاتِ ، ولكنْ لا احدَ من المسلمين يقولُ بأن جميعَ القراءاتِ صحيحةٌ .
وهذه الموجةُ من الدعاوى إنما هي استيرادٌ لبضاعةٍ غربيةٍ تعالجُ مشكلةً غربيةً ومسيحيةً بالذاتِ ، ولا علاقةَ لها من قريبٍ أو بعيدٍ بالفكرِ الإسلامي .
بل إن دعوى صحةَ القراءاتِ المتعددةِ هي دعوى مسيحيةٌ لتصحيحِ مسارِ الكنيسةِ حيث وقعتْ مشاكلُ كثيرةٌ، وهذا الظرفُ لا يمكنُ أن ينطبقَ على الفكرِ الاسلامي والشيعي بالذات، ولهذا فإن بعضَ المسلمين والشيعة التسلقيين الذين اتبعوا فكرةَ القراءاتِ المتعددةِ التي وردتْنا أولاً في العالم السني المحكومِ من قبلِ السلفيةِ الحشويةِ الخاطئةِ التي تشابهُ مسارَ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ , حيثُ تفرضُ رؤاَها اللا عقلانية على النص والدين، فان هذا الانتقالَ سواءً مباشرةً من أبحاثِ الغربِ الكنسيةِ أو من خلالِ الصراعاتِ السنيةِ حولَ تفسيرِ النصوصِ إنما هو جهلٌ من الشيعي بحقيقةِ مذهبِه الفكري ، ولم نقرأْ لحدِ الآن أيَ مؤشرٍ من أحسنِ كتّابِ الحداثةِ ما يشيرُ إلى فهمٍ عميقٍ للفكر الشيعي . بل هي أفكارٌ مناقشةٌ ومردودةٌ بالأدلةِ العلميةِ في الفكرِ الشيعي ، حتى لو غُلفتْ بألفاظِ ومصطلحاتِ العلماءِ الشيعة ، وإنما هي مجردةٌ من محتواها بطريقةٍ دجليةٍ فيها الكثيرُ من التعميمِ وقلبِ المقاصدِ .
المبرارتُ العمليةُ لدى المسيحيين للقراءاتِ المتعددة:
تتلخصُ العواملُ المؤديةُ الى ظهورِ ظاهرةِ القراءةِ المتعددةِ للدين بما يلي :
العامل الأول : تصحيح مسارِ الفكرِ المسيحي حيثُ ظهرتْ مشاكلُ حقيقيةٌ لدى المفكرين المسيحيين ، أورثتْ شكوكاً وتساؤلاتٍ حولَ أصالةِ المسيحيةِ كفكرٍ دينيٍ. وهذه المشكلاتُ وجدوا لها حلاً جاهزاً هو (القراءةُ المتعددةُ للدين) لإنقاذِ المسيحية من الزوالِ وسْطَ الأفكارِ التي لا تقوى عليها ، من هذه المشاكل :
المشكلةُ الأولى : الاختلافُ والتناقضُ في نصوصِ الإنجيلِ والتوراةِ . كما إن تعاليمَ الكنيسةِ تتعارضُ مع نفسِ الديانةِ المسيحيةِ مثل دعوة الكنيسةِ للقتالِ والقتلِ والاغتيالِ بخلافِ تعاليمِ المسيحِ صراحةً، فلابدَّ من القولِ بتعددِ القراءاتِ حتى يغطيَّ على ظاهرةِ الاختلافِ والتناقضُ التاريخيِ والمعنويِ.
المشكلةُ الثانيةُ : تعارضُ الكاتبينِ المقدسينِ مع منجزاتِ العلمِ ابتداءً من عصرِ النهضةِ إلى هذا اليوم . فلا بدَّ من قراءةٍ جديدةٍ رديفةٍ للقراءةِ القديمةِ مع القولِ بصحتهما حتى لا ينهارَ الدينُ المسيحيُ .
المشكلةُ الثالثةُ : تعارضُ النصوصِ المسيحيةِ الأساسيةِ سواءً في الكتابِ المقدسِ أو في النصوصِ الكنسيةِ التفسيريةِ مع العقلِ صراحةً ، مثلَ القولِ بأن التثليثَ توحيدُ يعني أن الثلاثةَ تساوي واحدا ، وأن تجسدَ اللهِ بصورةِ بشرِ ممكنٌ ، وقصصاً خرافيةً عجيبةً مثل مصارعةِ اللهِ معَ يعقوبَ وكسرِ رجلِ اللهِ وهربهِ من يعقوبَ . وشذوذَ الأنبياءِ جنسياً أو مثلَ كتابِ القديسةِ أوستير التي أنقذت بزناها المهولِ بني إسرائيلَ أو كتابَ الجامعة الخلاعي وغيرَه ، وأمثالَ ذلك مما أحرجَ المفكرينَ المسيحيينَ.
العاملُ الثاني: موضوعُ تفردِ الكنيسةِ في السلطةِ وإحداثِ شروخٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وفكريةٍ. فقد اضطهدتْ السلطةُ الكنسيةُ الشعوبَ ، وفرضتْ عليها قراءةً مختلةً للنصوصِ بلْ حرمتْ فهمَ نصوصِ الكتابِ المقدسِ إلا عبرَ الكنيسةَ حتى لو كانَ خلافَ الظاهرِ من النصِ، وأنشأَتْ الكنيسةُ حروباً ودماءً بين المسيحيين كانت من أغزرِ ما سُفكَ من دماءٍ في كلِ العالمِ وبينَ جميعِ الأديانِ، فأضحتْ الدعوةُ لصحةِ القراءاتِ المتعددةِ حاجةً ملحةً من اجلِ الحفاظِ على الكنيسةِ والتفلتِ من سوءِ ما أحدثتْ من شرخٍ في المجتمعاتِ المسيحيةِ بقراءةٍ جديدةٍ لا تطعنُ بالقراءةِ القديمةِ .
العاملُ الثالثُ: ظهورُ نظرياتٍ فلسفيةٍ غربيةٍ في المعرفةِ تنادي بنسبيةِ المعرفةِ والحقيقةِ ، وأن الحقيقةَ إنما هي من صُنعِ الذهنِ البشري ، فلا يوجدُ أمرُ ثابتُ معينٌ ليكونَ هو الصوابَ حتى يكونَ غيرُه الخطأَ ، وكان هذا ظَرفاً مساعداً على تَقَبُلِ القراءاتِ المتعددةِ للدين ، بل هذه النظرياتُ تبررُ كلَ اختلافٍ في الفكرِ وتصححُ كلَ الأفكارِ مهما كانت متضاربةً .
العاملُ الرابعُ : انتشارُ دعوى أن الرسالةَ عبارةٌ عن تجربةِ عرفانيةٍ للنبي المرسلِ فهي مشاهداتٌ روحانيةٌ بقراءتهِ الشخصيةِ ، وهي قابلةٌ لان يُضافَ إليها قراءاتٌ أخرى من زاويةٍ ثانيةٍ ، وكلُها قراءاتُ صحيحةُ . وهذا إنما نشأ لأنَ الكنيسةَ ترى أن النبوة مستمرةٌ لحد الآن، وان البابا رسولٌ ملهمٌ بطريقِ المكاشفةِ والتجربةِ الشخصيةِ في قراءة الدينِ. فعليه لا داعي للاقتصارِ على رؤيةِ النبي الأساسيِ للديانةِ. وهذا حلٌ مناسبٌ بالنسبة للمسيحيين من أجلِ التخلصِ من مشكلةِ التناقضِ في الوصايا الدينية والرؤى الإيمانيةِ وتعاليمِ الكنيسةِ المتضاربةِ مع أصلِ الرسالةِ التي جاء بها النبيٌ .
العامل الخامس : انتشارُ فكرةِ في الغرب تقول: إن الإيمان هو (إحساسٌ) وليس هو المعرفةُ والتبصرُ بما اُنزلَ على النبي بطريق الوحي ، وهذه الفكرةُ تعطي المبررَ لصحةِ القراءاتِ المتعددةِ وإنْ اختلفتْ مع التعاليمِ الأساسيةِ للدينِ . وهي بنفسِ الوقتِ تبررُ استمرارَ ابتداعِ دياناتِ داخلَ الدين من دونِ شعورٍ بالخروجِ عن الدينِ الأصلي.
العامل السادس : تأثيرُ النظرياتِ الأدبيةِ واللغويةِ في تفسيرِ النصِ :
وهي تشملُ عدةَ نظرياتٍ تساعدُ على تصحيحِ القراءاتِ المتعددةِ للدينِ :
1- نظريات الهرمنيو تيكا (التأويلُ أو القراءةُ التأويليةِ) : وهذه النظرياتُ تحتاجُ منا إلى ندواتٍ كثيرةٍ لشرحِ ماهيتِها وأبعادِها ، ويمكنُ تلخيصُ فهرسِها بشكلٍ مبتورٍ بما يلي:
1-1- الاتجاهُ المحافظُ : وهو يقولُ إنه يمكنُ الوصولُ إلى مقصدِ المؤلفِ من خلالِ المنهجِ العمليِ الذي طرحوا بعضَ معالِمِه ، ويمثلُ هذا الاتجاهُ : شلاير ماخر ، وديلتاي ، وهرش .
1-2- الاتجاهُ المعتدلُ : وهو يقولُ بانَّ التفسيرَ هو حوارٌ جدليٌ خلاّقٌ بين النصِ والمفسرِ ، وهو لا يرتضي القولَ بوجودِ حقيقةٍ موضوعيةٍ ، والمقصدُ دائماً هو مزيجٌ من معرفةِ المفسرِ ومحتوى النص . ويمثلُ هذا الاتجاهَ : غادامر وريكور وإميليوبتي .
1-3- الاتجاهُ المتطرفُ : وهو يؤمنُ بخلاّقيةِ المفسرِ للمعنى ولكنه لا يقبلُ فكرةَ الوصولِ الى الحقيقةِ ، فإنَّ الحقيقةَ ضائعةٌ ولا يمكنُ الوصولُ إليها. فالمعاني محتملةٌ ونسبيةٌ . ويمثلُ هذا الاتجاهَ : نيتشه وهايدغر وفوكو وديردا .
1-4- الاتجاهُ النقدي : وهو يرى أنه فيما لو غرقَ المفسرُ في التأملِ فيمكنُه أنْ يتجردَ عن الخلفيةِ الثقافيةِ له ، وبهذا يمكنُه أنْ يُدركَ النصَ بلا تأثيرٍ شخصيٍ ولكنْ هذه الحالةُ خلافُ عادةِ القُرّاءِ العاديين ، وعليه فهي مجردُ فرضٍ علميٍ بالنسبةِ للواقعِ العملي ، فإدراكُ الحقيقةِ ممكنٌ ، ولكنهُ يحتاجُ إلى تأملٍ شديدٍ . ويمثلُ هذا الاتجاهَ : جون هابرماس وكارل أتو .
وهذه النظريات من ناحية تاريخية تنقسم إلى :
1-1-1- التأويليةُ الكلاسيكية : وروادُها أصحابُ الكنيسةِ البروتستانتية . وهي ترى أن مقصدَ المؤلفِ يمكنُ الوصولُ إليه بالفهمِ الموضوعيِ من خلالِ إزالةِ الغموضِ الذي يكتنفُ النصَ .
1-1-2- التأويليةُ الرومانسية : ورائدُها شلاير ماخر. وهي مبنية على أن لكلِ نصٍ جانبين: موضوعيٌ (وهو نفسُ النصِ) ، وذاتيٌ (وهو فكرُ المؤلفِ والمعنى الكامنُ في ذهنهِ ) ، وفي سبيلِ الوصولِ إلى فكرةِ النصِ الحقيقيةِ يجبُ المعرفةُ بخصائصِ النصِ نفسِهِ ، وبظروفِ المؤلفِ وخلفيتِهِ الثقافيةِ، ولهذا فإنَّ علمَ الدلالةِ عندهُ: هو ما يشتملُ على إزالةِ الغموضِ من النصِ بطرفيهِ الموضوعيِ والذاتيِ .
1-1-3- التأويليةُ الفلسفية : ورائدُها مارتن هايدغر . وقد بنى فكرَهُ على أساسٍ فلسفيٍ مبنيٍ على التفريقِ بينَ الوجودِ والموجودِ، وأن ادراكَ الكائنُ الإنسانِيُ لوجودهِ يساعدُهُ على اكتشافِ ما حَولَه. وأهمُ مُدعياتِه هو استقلاليةُ النصِ عن مبدعِهِ ، والفهمُ هو حوارُ بين النص والمفسر ، وتأثيِرُ الأحكامِ المسبقةِ على الفهمِ . فالفهمُ لم يصنعْه المفسرُ وحده ، ولكن تصنعُهُ خلفيتُهُ المعرفية. وهي التي ساهَمتْ في تكوينِ المعنى . وقد أَسفّتْ هذه المدرسةُ حينما ادعتُ موتَ المؤلفِ وولادةِ المفسرِ أو النصِ ، وتبقى القيمةُ المعرفيةُ - في هذا الاتجاه - احتماليةَ وليستْ مؤكدةً للوصولِ للمعنى ، وليس للنصِ تفسيرٌ نهائيٌ ثابتٌ وإنما يحتملُ تفسيراتٍ متعددةً لا نهائيةً . ولهذا فإنَّ أصحابَ هذه المدرسةِ لا يَرونَ إمكانَ الوصولِ للحقائقِ مهما حاولنا . وهذه النظريةُ رفضَها علماءُ الغربِ ويروّجُ لها مُدّعو الحداثةِ في بلادِ المسلمين تبعاً لتخلفهِم الفكري.
وهذا الاتجاهُ الأخيرُ هو الذي يحملُ رايتهُ الحداثويون المسلمون، وهو طرحٌ يقتلُ نفسَهُ بنفسِهِ ولا يحتاجُ إلى نقاشٍ ، فقد اتجهَ هابرماس إلى أن هذه النظريةَ تنفي نفسَها ، وهي تنفي عمليةَ الفهمِ والردِ والبدلِ من الأساسِ ، واعترض (كارل اوتو ) قائلا : (أغلقتْ هذه النظرياتُ الأبوابَ بوجهِ كلِ نقدٍ وتقييمٍ لأيِ تفسيرٍ ورأيٍ) ، كما اعترض هابرماس (بأنَ هذه النظريةَ تؤدي للنسبيةِ في العلومِ الاجتماعيةِ واعترضَ على عدمِ وجودِ معيارٍ للفهمِ الصحيح من الفهمِ السيئِ). وقد دافعَ علماءُ الغربِ (عن وجودِ منهجٍ ومعاييرَ علميةٍ يمكنُ من خلالها تمييزُ الفهمِ المعتبرِ من غيرِ المعتبرِ وتحصيلُ الفهمِ والتفسيرِ الخارجيِ والموضوعيِ المعيّنِ في العلومِ الإنسانيةِ) وقد أشار هيرش إلى ( أنَّ الهدفَ الأساسيَ من عمليةِ التفسيرِ هو التوصلُ لقصدِ المؤلفِ) وهذا منتهى التحقيرُ للنظرية. وهناكَ مناقشاتٌ علميةٌ غربيةٌ وإسلاميةٌ لهذهِ النظريةِ يطولُ شرحُها ، وكلُها قدْ فَندتْ هذه النظريةَ وجعلَتها في مزبلةِ التاريخِ من الناحيةِ العلميةِ. حيثُ أنها نظريةٌ لا تستطيعُ حمايةَ نفسِها من السقوطِ.
2- نظريةُ فراغِ الألفاظِ الدينيةِ من المعنى: وهي نظريةُ (جماعةُ فيّنا) وخلاصتُها : أن كلَ لفظٍ غيرِ قابلٍ للتجربةِ والاختبارِ هو خالٍ من المعنى ولا يوصفُ بالصحةِ والصوابِ ، فلا هي صادقةٌ ولا هي كاذبةٌ ، وهذا القدرُ من الفهمِ للألفاظِ الدينيةِ يجعلُها مقبولةً عندَ المسيحيينَ، فالنصُ غيرُ كاذبٍ حتى لو عاند العقلَ ، والفكرةُ تعتمدُ على أن المعيارَ للحقيقةِ هو المنهجُ التجريبيُ الحسيُ ، والقضايا الدينيةُ هي ما وراءَ الحسِ ، فلا يمكنُ الحكمُ عليها من الأساسِ فتبقى عائمةً.
3- نظرية رمزية اللغة الدينية : وهي تعني بأنَّ الكتابَ المقدسَ النصراني يحتوي على أمورٍ لا يمكنُ تفسيرَها على ظاهرِ ألفاظِها ولهذا ذهبوا إلى ان المقصودَ منها هو الرمزُ وليس الحقيقةَ ، مثلَ الجنةِ والنارِ والشيطانِ والملائكةِ والجنِ وهكذا ، وكان سببُ هذا القولِ هو عدمَ معقوليةِ بعضِ مفاهيمِ الدينِ المسيحيِ مثلَ أنَّ الواحدَ يُساوي ثلاثةَ أو التجسيدَ أو الوقائعَ التاريخية التي لم تَثبتْ او ثبتَ عكسُها. كما أنَّ من الأسبابِ التناقضُ في نصوصِ الإنجيلِ والتوراةِ مع العلمِ ، فقالوا بالرمزية وعمَموها على المعقولِ من النصوصِ . وهذه النظريةِ اقتبَسها بعضُ المسلمين ليسلّموا بتعميمِ الرمزيةِ في القرآن الكريم ، معتمدين على وجودِ الأدواتِ البلاغيةِ فيه ، فبما أنهُ يوجدُ في القرآنِ مجازٌ وكنايةٌ وتشبيهٌ واستعارةٌ ومثلٌ وغير ذلك ، فإذنْ ادمُ لا وجودَ له وقصة إبراهيمَ قصةٌ خياليةٌ أخلاقيةٌ، والطوفانُ عملٌ رمزيٌ أخلاقيٌ والعبادةُ إشارةٌ الى التقربِ من الله وهكذا . وهذا يحتاجُ إلى أبحاثٍ واسعةٍ لبيانِ الخللِ الذي ارتكبهُ الحداثويون المسلمون في هذه القضيةِ رغمَ اعترافِنا بأنَّ التأويلَ على مراحلَ متعددةٍ، فمنه ما هو تفسيرٌ للظاهرِ من اللفظِ ومنه ما هو بيانٌ للمقصدِ بخلافِ الظاهرِ ، ومنه ما هو رمزٌ . فللقران ظاهرٌ وباطنٌ وللباطنِ باطنِ حسبَ تفسيرِنا الصحيح . ولكنْ هذا لا يعني أن كلَّ النصِ الدينيِ رمزُ لا يمكن فهمه.
العامل السابع : قياسُ النصوصِ الدينيةِ بالنصوصِ الأدبيةِ الخياليةِ وتعميمُ الدلالةِ الأدبيةِ المتخيلةِ على النصوصِ الدينيةِ : وكما هو معروفٌ فإنَّ النصوصَ الأدبيةَ تعتمدُ على تحريكِ الخيالِ وبعثِ الإيحاءاتِ والمشاعرِ ، فيكونُ مدارُ الإثارةِ في النصِ الأدبيِ بما يخلقُ من تزايدِ في المشاعرِ والإيحاءاتِ وهذا يعني أن المحورَ في فهمِ النصِ هو ذاتُ المفسرِ أو المتلقيِ بخلافِ المسلكِ العقلائيِ الذي يشيرُ إلى أنَّ المحورَ في العلومِ والقوانينِ هو المؤلفُ ومُنشئُ النصِ وليس مفسرَهُ ، وعملُ المفسرِ انما هو في مقدارِ اْستكشافِ إرادةِ المؤلفِ. فالذي قامَ به الحداثويون الأوربيون هو خلطُ الأوراقِ وحملُ النصِ الدينيِ على النصِ القصصيِ الخياليِ . وبهذا يصححونَ النصَ الدينيَ مهما اضطربَ ، خدمةَ لدينِهم المنهارِ في خضمِ التقدمِ العلميِ، بخلافِ تصرفِ الحداثويينِ المسلمينِ من تفنيدِ النصِ باختراعِ قراءاتٍ مختلفةٍ حتى تنهدمَ بنيةُ النصِ ، والحداثويُ المسلمُ يقصدُ ان النصَ الدينيَ المعيّن لا ينفعُ بسببِ ما اخترعَه هو من معنىً مغايرٍ ، فيقترحُ علينا ان نأتيَ بنصِ آخر من بابِ الديمقراطيةِ في قراءةِ النصِ والاختيارِ الحرِ للمفسرِ ، فهم يُريدون لصقَ عيبٍ بالدينِ بتحريكِ الخيالِ في فهمِ النصِ، بخلافِ عملِ الغربيينَ الذينَ يريدونَ إخفاءَ عيبِ دينِهم . وهذا هو الفرقُ بين من يعتزُ بانتمائِه وحضارتِه ويحميَها من السقوط، وبينَ الذيولِ الذينَ يهدمونَ حضارتَهم القويةَ بمعاولَ من خشبٍ . ولهذا فالحداثويونَ الأوربيونَ اغلبَهم متدينونَ يدعمونَ دينَهم السقيمِ ، والحداثويون المسلمون اغلبُهم متحللونَ اخلاقياً و فكرياً ، يهدمون دينَهم السليمَ، ويرون أنهم يُحسنون صنعاً متبعين هايدغر وغيره، ممن لا هوية لهم.
=================
ومن اجلِ المناقشةِ القصيرةِ مع القائلينَ بتعميمِ القراءةِ الأدبيةِ على النصِ الدينيِ، بالإضافةِ للقائلينَ بتعددِ القراءاتِ بشكلٍ عامٍ، نقولُ ما يلي :
أولا : إنَّ النصَ الأدبيَ هو بذاتِه يُعطي الحقَ لقارئِه بالخيالِ وتحريكِ المشاعرِ الداخليةِ ، بينما النصُ الدينيُ إما أوامرٌ وأحكامٌ وإما حقائقٌ مستكشفةٌ كالقيمِ والصورِ ، وهذا يحتاجُ إلى بيانِ قصدِ المشرّعِ للدينِ، حتى يكونَ الإتباعُ في العملِ والتصورِ مطابقاً لما هو مأمورٌ به ، ولو كانتْ الرؤى الأدبيةُ مقبولةً في القانونِ لكانتْ المحاكمُ تحكمُ وفقَ خيالاتِ الترياكيةِ وأصحابِ المخدراتِ الذينَ ينتجونَ أروعَ منتجاتِ الخيالِ البشريِ الصرفِ . على أنَّ اغلبَ الأدبِ يحتاجُ إلى معرفةِ قصدِ المؤلفِ، وليسَ القولُ بأنَّ الأمرَ متروكٌ للمفسرِ هو قولٌ دائمٌ في الدراساتِ الأدبيةِ، كما يعلمُ ابسطَ أديبٍ أو دارسٍ للأدبِ. بل هناكَ أقوالٌ في الهرمنيوتيكا تقولُ لابدَ من معرفةِ ظروفِ المؤلفِ وعقلهِ وغير ذلك، ويقصدونَ بذلكَ تحليلَ المقاصدِ ومعرفتها منْ ظروفِ وضعِ النصِ ، وليسَ نفيَّ مقاصدَ المؤلفِ .
ثانيا : إن اختلافَ التفاسيرِ والرؤى بينَ الفقهاءِ والمفكرينَ لا يعني أن جميعها مقصودةٌ، وكلَها صحيحةٌ، حيث يحدثُ التناقضُ بين نصوص الدين تبعا للرؤى المختلفة، وفي الدينِ الإسلاميِ هناكَ قضايا يقينيةٌ وثابتةٌ، وهناك قضايا ظنيةٌ يمكنُ الاختلافُ فيها ، وهي كلُها محلُ نظرٍ بالدليلِ ، فمنْ اتبعَ الدليلَ في نظرةٍ معينةٍ، فقد اقتربَ منْ قصدِ الشارعِ بقدرِ استطاعتِه وحسبَ صحةِ مبانيهِ . وهنا تبرزُ نظريةُ (الاجتهادِ) وليسَ نظريةَ (تعددِ القراءاتِ) وصحتِها . فلا يمكنُ أنْ يكونَ الاختلافُ الاجتهاديُ مبرراً لتعددِ الحقائقِ وبالتالي صحة تعدد القراءاتِ ، إنما كلٌ ملزمٌ بما دلَ عليهِ الدليلُ ، وهذا يعتمدُ على قاعدةِ التخطئةِ للمجتهدِ التي نقول بها، بخلافِ غيرِنا الذي يقولُ بالتصويبِ . وبهذا فلا معنى لأنْ نطبقَ الدلالةَ الأدبيةَ على النصِ الدينيِ بسببِ الاختلافِ في الاجتهادِ ، بل نرى أنَّ المجتهدَ المخلصَ إما معذورٌ أو مصيبٌ ، ولا نقولُ بالصوابِ لكلِ أقوالِه ، وعلى هذا فإنَّ القولَ الحقَ هو واحدٌ ، ومنْ لمْ يصبْهُ قصوراً فهو معذورٌ ، وإذا كانَ قاصراً فهو آثمٌ ، فليسَ كلُ ما يقولُهٌ الفقيهُ صائبٌ، وليس منْ حقِ الفقيهِ أن يَجتهدَ في الضرورياتِ ولا مقابلِ النصِ ، بخلافِ القراءةِ المتعددةِ للنصِ الأدبيِ . وهذا ما يؤكدُ عليه الفكرُ الشيعيُ ، ويقطعُ حجةَ الحداثوي من تعميمهِ لصحةِ كل قراءاتِ النصِ الدينيِ استناداً إلى وجودِ الاجتهاداتِ المختلفةِ بينَ الفقهاءِ.
ثالثا : نظريةُ تعددِ القراءاتِ في حقيقتِها مبنيةٌ على نسبيةِ المعرفةِ ونظريةِ الشكِ، وهذه النظريةُ تبطلُ نفسَها على اقلِ تقديرٍ ، فإنَّ صحةَ الشكِ بكلِ نظريةٍ تنطبقُ عليها نفسِها، وكذا النسبيةُ فتكونُ هي بنفسِها ليستْ من الحقائقِ التي يمكنُ أنْ تكونَ طريقاً لتفسيرِ الحقائقِ ، (فاقدُ الشيءِ لا يعطيه). ثم إنَّ هذهِ النظريةَ مخالفةٌ للوجدانِ وللعلمِ ، وقدْ هجرَها الغربُ في المجالاتِ العلميةِ، وبقيتْ في المجالاتِ الأدبيةِ والدينيةِ تُلاكُ بصورةٍ ظلاميةٍ غريبةٍ، وكأنَّ المقصودَ بها المجتمعاتُ خارجَ المجتمعِ الغربيِ أو هي للضحكِ على الذقونِ، لأنها غيرُ قابلةٍ للتطبيقِ في أيِّ مجالٍ علميٍ . بل ظهرتْ الآن نظرياتٌ تحاولُ أنْ تزيلَ مفهومَ الشكِ المربكِ حتى من المجهولاتِ كما فعلَ الرياضيون سابقاً ، وقد اعتمدتْ في ذلكَ طرقاً في الذكاءِ الصناعيِ مثلَ المنطقِ الضبابيِ (فوزي لوجيك) وغيرِهِ من محاولاتٍ تعملُ عليها الروبوتاتُ والآلاتُ بدونِ قائدٍ . وبقيَّ جماعةُ الحداثويةِ المسلمينَ يتمسكونَ بمفهومِ الشكِ ونسبيةِ الحقيقةِ، بما كانَ عليهِ فلاسفةُ القرنِ الثامنِ عشرَ والتاسعِ عشرَ الميلادي، بينما هم يريدون الظهورَ أمامَ المجتمعِ المسلمِ بمظهرِ التطورِ والمجاراتِ للحياةِ العصريةِ ، وهم لا يعلمون مستوى التخلفِ الذي وقعوا فيه .
رابعا: إنَّ أصحابَ نظريةِ تعددِ القراءاتِ المسلمينَ، يركزونَ على قضيةٍ هي خلافُ نظريتِهم بالتمامِ ، بل تبطلُ نظريتَهم علماً وعملاً، فهم يحرصون بشدةٍ على إثباتِ خطأِ القراءاتِ السابقةِ ويحاولونَ تصحيحَها ، وهذا نبذُ ظاهرٌ لنظريةِ صحةِ تعددِ القراءاتِ ، وقولِهم بالحريةِ في اختيارِ المعنى المناسبِ للمفسرِ حسبَ خلفيتهِ ، فإنَّ أيَ محاولةِ تصحيحٍ هي قتلٌ لنفسِ النظريةِ بما يجعلُها غيرُ قابلةٍ للتطبيقِ ، والدعوى لها تصبحُ مجردَ حركةِ دجلٍ فكريٍ يمارسٌ مع البسطاءِ لتمشيةِ الأغراضِ الخاصةِ بالحداثوي ، فإذا كانت كلُ القراءاتِ صحيحةً فلماذا يريدُ الحداثوي أنْ يُصححَ القراءاتِ السابقةِ؟ أو ينفي القراءاتِ التي تنقض غزله ؟ وتصرفَه يعني أنه يريدُ منا أنْ نقبلَ تفسيرَه للنصِ الديني بخلافِ ضروراتِ ديننا الحنيف ، بينما هو لا يقبلُ تفسيرَنا لنفسِ النصِ ويرفضَه متعالياً وكأنه يملكُ الحقيقةَ وهو يقول بنسبية المعرفة!! فهذا تناقضٌ من جهةِ الفكرِ ، ودجلٌ ظاهرٌ من جهةِ العملِ .
خامسا : انعدامُ العواملِ التي أدتْ إلى ظهورِ القراءاتِ المتعددةِ للدينِ المسيحيِ ، فلا يوجدُ كلُ هذهِ المشاكلِ في الدينِ الإسلاميِ ، فما المبررُ لتطبيقِ نظرياتٍ وحلولٍ لمشاكلِ الدينِ المسيحيِ المحرّفِ المتهاوي من كثرةِ البدعِ والانحرافاتِ على التشيع مثلا؟ الذي يحملُ انصعَ الأفكارِ وقد بين خللَ كلَ الادعاءاتِ للاختلافِ والتناقضِ بما يؤكدُ جهلَ المشكلِ نفسهِ، وكان ذلك أساساً على يدِ أئمتِنا عليهم السلام ومن بعدِهم العلماء زاد اللهُ في شرفِهم.
فتعميمٌ صحةِ القراءاتِ المتعددةِ للفكرِ المسيحيِ وتعديِها لنصوصِ الإسلامِ والتشيعِ بالذات ، هو قياسٌ مع الفارقِ ، وقد ذكرَ احدُ الباحثينَ أن سبب استعارةِ نظريةِ القراءاتِ المتعددةِ من قبلِ بعضِ المسلمينَ هوَ ما يلي :
1- الانبهارُ بالغربِ ومنجزاتِه وأفكارِه المتحركة .
2- تبريرُ بعضِهم بأنَّ هذهِ طريقةٌ لتقريبِ المذاهبِ .
3- العاملُ السياسيُ : حيثُ أنَّ الحكوماتِ المسلمةِ التابعةُ سياسياً للغربِ استلمتْ أوامرَ بنشرِ هذا الفكر من اجلِ تسويقِ رؤيةً غربيةً مسيحيةً في العالمِ الإسلاميِ فإذا لم يقتربِ المسلمونَ من الغربِ فهم سيتشتتون فكرياً. وسيهدمون بايديِهم دينَهم الذي هو عصمةُ أمرِهم.
ويمكن ان نضيف إليه التالي :
1- التحللُ الأخلاقيُ والانحرافُ الذاتيُ في طبائعِ بعضِ المؤسسينَ لهذا الفكرِ واستيرادِهِ، وانخداعِ البسطاءِ بهم.
2- طلبُ الجاهِ والترقيِ في درجاتِ المناصبِ ، وهذه وسيلةٌ سريعةٌ في إثباتِ غموضِ شخصيةِ المتمسكِ بهذه المقولاتِ (خالف تعرف) وهو مما يستدعي أنْ يكونَ محوراً للنقاشِ في المجتمعِ ، فيشتهرُ شخصُهُ بين الناسِ وينالُ مطلَبهُ ، لأنه لا يستطيعُ أنْ يفعلَ ذلك بينَ فحولِ العلماءِ ، فأدواتُهُ قاصرةٌ عن مقارعةِ الفحولِ فيلجأ إلى السهلِ.
ونقولُ أخيراً أنَّ نظريةً تقولُ بأن النصوصَ فارغةُ من المعنى وأنَّ معانيها لا تدركُ ، بينما أصحابُها يمارسونَ عمليةَ فهمِ النصوصِ علانيةً ، لهي نظريةٌ دجليةٌ متخلفةٌ ، مبنيةٌ على خلافِ العقلِ وعملِ العقلاءِ .
وعملُهم بالتفتيشِ عن المعنى بعدَ قولِهم بعدمِ ثباتِه وعَدِم موضوعيتِهِ فهو كعملِ من يفتشْ في المزبلةِ عن الأكلِ النفيسِ، حيثُ أنَّ عملَهُ خلافُ مفروضِ القضيةِ أصلاً.
وهذا هو الجهلُ .
وهذا هو السطحيةُ .
وهذا هو الدجلُ الحقيقيُ .
{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}(الإسراء/105).
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}(الطارق/14).
{لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(فصلت/42).
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا}(النساء/87).
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ}(المرسلات/7).