الكاتب: الشيخ مصطفى الهادي
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
المهيمن
تأملات في سفر يونان بن حجي
تأملات في سفر يونان بن حجي
بعد تدمير دولة اليهود على يد البابليين وإحراق مدينتهم وتدمير الهيكل بحيث أصبحت المدينة تلا من التراب تأوي إليها الثعالب, وسوق ما تبقى من اليهود سبايا إلى بابل وضياع التوراة بصريح التوراة نفسها. حاول اليهود بعد أن حررهم كورش لملمة شتات ما تبقى في الذاكرة لتدوين كتابهم المقدس. فاصطبغت التوراة بأحداث ما قبل وما بعد السبي، ولكن الذي طغى على هذا الكتاب هو روح الانتقام والتشفي من البشرية التي أذلت اليهود وأنهت حضارتهم وإلى الأبد بحيث أصبحوا شراذم يتوزعون في شتات الأرض طلبا للعشب والماء همهم الحفاظ على أغنامهم وتيوسهم، فبقوا طيلة حياتهم يحلمون بأرض تفيض عليهم لبنا وعسلا فدونوا مواصفات هذا الأرض في توراتهم فكانت حدود هذه الدولة كل موضع تدوسه اخامص أقدامهم.
دوّن اليهود التوراة من الذاكرة، فاختلطت أمور كثيرة في نصوص التوراة فكانت الخرافة والأسطورة وما كانت تؤمن به الشعوب من خرافات وعقائد وقصص وتراث وتاريخ شعبي حافل بالأوهام هذا النسيج المضحك كوّن اللبنات الأولى للتوراة التي تبلورت على مر السنين عن التوراة الحالية. ولكن من بين كل هذه التداعيات النصية الخطيرة، تم تدوين ما علق في الذاكرة من التوراة الأصلية خصوصا وقد حرص الكاهن عزرا على ملاحقة تلك النصوص التوراتية في زوايا ذاكرة من تبقى من الأحبار وكبار كهنة المعبد (( السنهدريم)) فكانت هناك نصوص صحيحة نطق بها الوحي على لسان موسى وقد عرفنا ذلك من خلال مطابقة ما جاء في القرآن الكريم من قصص وروايات وعبر وتاريخ الأمم وحالات بعض الأنبياء مع ما موجود في الكتاب المقدس بشقية القديم والجديد.
ذكرنا في بحوث سابقة بعضا من هذه النصوص التي جاء القرآن مؤيدا لها ومصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. أي لبعض ما في هذين الكتابين وليس كلهما.
ومن ذلك ما جاء في سفر يونان بن حجي، الذي ذكر قصته القرآن الكريم على أنه النبي (يونس). فقد تطابقت هاتين الروايتين تطابقا يكاد يكون حرفيا لولا بعض التطويلات والامتدادات التي جاءت بها التوراة والتي تُثبت بأن للخيال البشري يدٌ فيها ومع ذلك فإننا نقرأ من سطور سفر يونان بأن القرآن عندما شهد لنفسه بالهيمنة على الكتب السماوية وحراستها من التحريف والتلاعب فإنه صادق في مدعاه. حيث أنه حرس الكتب الأصلية المفقودة ولكنه عندما يعثر على نص صحيح في هذه الترجمات المتداولة الحالية فإن القرآن لا ينكره بل يؤيده، وبذلك أشار لنا القرآن الكريم ولو من طرف آخر بأن بعض تلك النصوص الموجودة في الترجمات الحالية مطابق لما في الكتب المقدسة الأصلية المحفوظة في مكان ما عند شخص ما، وهي نصوص صحيحة وإن شابها بعض التلاعب الذي لا تأثير لهُ على جو القصة العام. ولربما يكون هذا التلاعب غير مقصود من قبل المترجمين وإنما حدث تبعا لفهم المترجم للنص، أو العي الذي قد يُصيب المترجم نتيجة عدم فهمة للنص فيترجم النص بشروحات وتطويلات لا داعي لها.
فماذا نلاحظه في سفر يونان بن حجي والذي شهد القرآن على صحته ؟
نأتي أولا على ذكر ما جاء به سفر يونان وهو جزء حُشر حشرا في العهد القديم. ولكن الطبعات الحديثة تستل هذا الجزء في كراس مستقل تحت اسم ((سفر يونان)) والمطبوع في مطبعة دار الكتاب المقدس طبع مصر عام 1993 والمرفقة صورته مع هذا البحث.
((وصار قول الرب إلى يونان... قائلا : قم واذهب إلى نينوى... ونادي عليها لأنهُ قد صعد شرهم أمامي... فهرب يونان ـ ناقما ـ ووجد سفينة ونزل فيها فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر حتى كادت السفينة أن تنكسر فقال بعضهم لبعض هلم نلقي قرعة لنعرف بسبب من هذه البلية. فوقعت القرعة على يونان ثم أخذوا يونان وطرحوه في البحر فوقف البحر عن هيجانه فأعد الرب حوتا عظيما ليبتلع يونان فكان يونان في جوف الحوت فصلى يونان إلى الرب من جوف الحوت فقذف الحوت يونان إلى البر فأعد الرب الإله يقطينة لكي يخلصهُ من غمه... فأرسله إلى نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثني عشر ربوة من الناس )).
هذه هي قصة يونان ( يونس) والحوت في التوراة في سفر يونان.
فماذا يذكر لنا القرآن من ذلك ؟
قال تعالى في كتابة العزيز في سورة الصافات حاكيا عن قصة يونس والحوت : ((وأن يونس لمن المرسلين إذا ابق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين. فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يُبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فأمنوا فمتعناهم إلى حين )) الصافات
ماذا نقرأ في النصين ؟
وان يونس لمن المرسلين إذ ابق. يعني ذهب هاربا خوفا، فهرب يونان ناقما، إلى الفلك المشحون، الممتلئ بالناس والمتاع فساهم فكان من المدحضين، فقال بعضهم لبعض هلم نلقي قرعة ـ ساهم ـ يعني نضرب السهام لنقترع على من تقع القرعة. فالتقمه الحوت. فأعد الرب حوتا عظيما ليبتلع يونان. فلولا انه كان من المسبحين.فكان يونان في جوف الحوت يصلي إلى الرب. فنبذناه في العراء. فقذف الحوت يونان إلى البر. وأنبتنا عليه شجرة من يقطين. فأعد الرب الإله يقطينة عظيمة. وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون. فأرسله إلى نينوى إلى اثني عشر ربوة من الناس.
وهنا نقف وقفة قصيرة في عدد من كانوا في نينوى.
سفر يونان يقول : (( فأرسله إلى نينوى المدينة العظيمة التي وجد فيها أكثر من اثني عشر ربوة من الناس ))
الربوة كما جاء في قاموس الكتاب المقدس تتكون من عشرة آلاف إنسان. فإذا كان في المدينة اثنا عشر ربوة، فهذا يعني أن فيها من مائة ألف إلى مائة وعشرون ألف.
القرآن الكريم ذكر أنه تعالى أرسل يونس إلى مائة ألف أو يزيدون. فتمعن معي في كلمة ((أو يزيدون)) ! القرآن الكريم لم يغفل هذه الزيادة لأن الربوة يختلف عدد الأفراد فيها عند الرومان وعند اليهود فاليونان في تعداد أورشليم (الاكتتاب) ذكروا بأن الربوة هي ثمانية آلاف، بينما يذكر اليهود في معركة جليات بأن شاول كان في جيشه عشرة ربوات والربوة فيها عشرة آلاف مقاتل وهذا يعني مائة ألف مقاتل. والقرآن الكريم لم يغفل عن هذه الملاحظة وذكر النص مترددا بين الفهم الروماني للعدد والفهم العبري للعدد، فقال تعالى : مائة ألف. أو يزيدون.
فسبحان الله تعالى
نص آخر قدمناه هنا إضافة إلى ما تقدم من نصوص وردت في بحثنا : ظلامة الزهراء : هل تنبأ يوحنا بما يحدث للزهراء.
وإلى مزيد من النصوص التي تُثبت بأن القرآن مهيمن على الكتب الأخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق